"تابع الجزء الأول"
فيقال:أن خيبر هى أم الفقراء التى ترضعهم وتتوفر بهذه المنطقة المقسمة الى ثلاثة أجزاء تخص ثلاث قبائل مختلفة المياه بوفرة ولهذا فإن الزراعة بها تحتل مكان الشرف وتزرع بها الحبوب وبصفة خاصة النخيل والفقراء البدو لايشتغلون فى زراعة الأرض التى تخصهم, فهم يعهدون بهذه المهمة الى فلاحين يظلون مرتبطين بالأرض ويعتنون بالحقول فى ظل الشروط التالية: يظل بستان ملكاَ للفقير(11) ويروى الفلاح النخيل ويعتنى بها وجنى التمر ويحصل على ثلث المحصول ويؤول الثلثان الاَخران الى المالك الى الفقير.
ويأتى هذا الأخير فى اأواخر لصيف ويحضر الجني ويضع تموينه من التمر فى سلال أو بين حصيرتين ويحتفظ بها فى خيمته أو فى بيت فى خيبر, وتُترك زراعة الحبوب لحرية تصرف الفلاحين الذين يبذرون القمح والشعير والعدس ويؤول المحصول اليهم بحكم العُرف, فيما عدا التبن الذى يؤول الى الفقراء و100مكيال من الحبوب عن كل بئر وتشكل هذه الضريبة (حق الماء) وتمارس زراعة البصل التى تحظى بتقدير كبير وزراعة الطَباق التى الاتقل تقديراَ عن زراعة البصل, فيما عدا مكافأة بسيطة تُعطى لمالك الحقل: سلتان أو ثلاث(فواطى)؟ وهى سلال تُضفر من سعف النخيل.
ومن هذا العرض البسيط يتبين كيف يتوصل الفقراء الى الحصول على غذائهم الضرورى يساعدهم فى ذلك الى حد كبير لبن ماشيتهم, ومن الواجب أن نضيف الى هذه الموارد: الخاوة( الأخاوة) (12) التى يُحصلها الفقراء من أهل تيماء وسكان العلا ففى هاتين الجهتين يُلزم كل بيت بأن يدفع لهم مجيدياَ كل عام, وثمة موارد أخرى يحصل عليها الفقراء من الحجيج السورى الكبير, فالحجيج يشترى كل عام حق المرور عبر أراضي الفقراء مقابل الف مجيدي(13) وفى الوقت الحاضر يمر الحجيج بالسكة الحديدية لكن بدو مدائن صالح لم يتخلوا عن عاداتهم.
وقد تم إتفاق بين الشيوخ والحكومة ليس فحسب فيما يتعلق بمرور الحجاج وإنما أيضاَ من أجل إقامة السكة الحديدية وحرية سير القطارات وفيما يلى المعاش الذى يُدفع شهرياَ الى الأعضاء الرئيسيين فى القبيلة وهذه القائمة فى حد ذاتها معبرة : "مطلق شيخ القبيلة كلها يحصل على 60مجيدياَ شهرياَ- سلطان (شيخ ثانوى) 25- شهب؟25- محمد العبد15- محمد بن مطلق15- مقعد15- متعب15- عبيد15- سليم15- التيهى15- طلق12,50=227,50" فالفقراء إذن يحصلون كل شهر على مبلغ 227,50مجيدى أي حوالى 1000فرنك من قبل الحكومة.
ولايندرج فى هذا المبلغ الـ 162مجيدياَ التى توزع كل شهر على 13مشرفاَ من الفقراء مكلفين بحراسة الطريق بين خشم صنع والعلا(14) ومن حقنا أن ندهش لهذا الإسراف فى النقود التى توزع على البدو, لكن هذا السلوك توحي به السياسة فقد كان المطلوب مد خط السكة الحديدية وكان من المرغوب فيه التعجيل بإنهاء الأعمال وهذا هو ماحدث, غير أنه كان من اللازم لبلوغ هذا الهدف التغلب على هذه العقبات:وهى معارضة البدو الذين لم يكونوا ينظرون الى مد الخط الحديدى بعين الإرتياح, وتم شراء البدوى بالذهب وقد صممت الحكومة على إنهاء هذه العبودية بمجرد أن تسمح الظروف بذلك بمجرد أن تصبح سلطتها قوية, بدرجة كافية لفرض الطاعة على أبناء الصحراء المتمردين.
فلم يعد سكان (معان) يحصلون على المعاش الذى كان يُعطى لهم فى البداية, فمتى يُتخذ قرار مماثل فى مواجهة الفقراء؟ ليس من الممكن دون مجازفة التكهن فى هذا الشأن ومن الممكن الإنتظار الى حين استقرار المئتين أو الثلاث مئة جندى المخصصين لمدائن صالح فى ثكنة جيدة تتوفر بها مدافع ممتازة عندئذِ سوف تُتخذ قرارات, وفيما يتعلق بالوقت الحالى يشاهد الفقراء كل شهر وصول الصراف الذى يُعطى بنزاهة المستفيدين المبلغ المتفق عليه وهم سعداء بهذا الكرم السلطانى الذى حسَن من أوضاعهم تحسيناَ بالغاَ منذ سنتين أو ثلاث, فقبل إقامة الخط الحديدى لم يكن باستطاعة الشيخ فى الواقع أن يحتفظ بفرسه أو يكاد .
وفى الوقت الذى نخط فيه هذه السطور يملك أكثر من خمسة عشر من اعضاء القبيلة أفراساَ أصيلة يطعمونها الشعير الذى يأتى به (البابور) من سهول مؤاب, وفضلاَ عن ذلك فقبل تشغيل القطار لم يكن لدى أي فقير خبز يأكله على مدار السنة بل أن عدداَ قليلاَ منهم هو الذى باستطاعته أن يتذوقه من حينِ لاَخر(؟) إذ أن محصولات خيبر لم تكن كافية لكن الوضع يتغير سريعاَ ففى الوقت الحاضر بُدىء فى جلب دقيق الحنطة الى مدائن صالح والفقراء كما لاحظنا يقدرونه جيداَ فمن المؤكد أن خبز الحنطة يبدوا لهم غذاءَ أفضل من تمور خيبر, وأثناء إقامتنا فى(الحِجرْ) شاهدنا قافلة من الإبل قادمة من صحراء*(فجر).
حيث يضرب الفقراء خيامهم, وكان أعضاء أسرة الشيخ يأتون لشراء الدقيق من مخزن المتعهد السيد دنتى (denti) وطلب حفيد له عشر عشرة جوالات منها لحسابه, وكما هو واضح يسير الشيخ على رأس هذه الحركة نحو التقدم ومطلق العجوز هذا ذو اللحية التى وخطها المشيب يقبض على السلطة بيد قوية فرغم تقدم سنه يدير شؤون قبيلته بنشاط وحكمة بالغة وقومه يطيعونه, ولايجرؤ شخص على عصيان أمر الشيخ, ومع ذلك فإن الشيخ لايتمتع بسلطة مطلقة فليس باستطاعته كما يفعل ابن رشيد أن يستولى بصورة تحكمية على خيام وقطعان رعيته فإذا رغب فى الحصول على فرس أصيلة بين يدي أحد أفراد القبيلة طلبها من المالك الذى يتنازل له عنها عن طيب خاطر.
لكنه لايتردد فى مقاومة استخدام العنف إذا حاول الإستيلاء عليها بالقوة ومع ذلك فثمة حالة لمطلق فى أن يفرض فيها ارادته وهي حالة الحرب, فباستطاعته أن يلزم رعيته بحمل السلاح وإذا رفض أي شخص إطاعة الشيخ فى هذه الحالة فمن حقه أن يأمر بتدمير بيته وعقر قطعانه لإجباره على الدفاع عن القبيلة, لكن هذه حالات استثنائية فالحياة اليومية أكثر هدوءَا ولاتنطوي على حالات عنف من هذا القبيل, فهو- وهو جالس تحت خيمته يُلطف المناقشات ويقر السلام ويعيد الوئام بين قوم سريعي الغضب مثل أطفال كبار, وإن كانوا بالجملة حريصين على قدر طيب من الوفاق لاغنى عنه, فهو بايجاز يباشر مهام كبير القضاة (16) وهو يهتم أيضاَ بالعلاقات بين قبيلته والحكومة وقد ساد السلام الاَن لكن حالة العداء استمرت طويلاَ بعد هجوم الفقراء على مدائن صالح, فقد جاء أحد المسؤلين من دمشق لإقرارالوفاق وقام بتوزيع بعض القطع الذهبية وعلق بعض النياشين على صدور أبناء الصحراء هؤلاء وذبح بعض الخراف وأتت غلبية الفقراء للمشاركة فى وليمة حيث أُشبعت القدور النحاسية الضخمة المليئة بالأرز وقطع اللحم أشد الشهوات نهماَ وهكذا تم دعم السلم الذى تُشكل المبالغ التى توزعها الحكومة شهرياَ دعامته الدائمة .
"يتبــع"