الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على رسول الله المبعوث رحمة للعالمين , وعلى آله وصحبه أجمعين ، ثم أما بعد :-
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ,
لقد تقرر عند أهل السنة والجماعة وجوب محبة قرابة النبي صلى الله عليه وسلم ، والإحسان إليهم ، ورعاية حقوقهم . وقد نص علماء أهل السنة على هذا في كتب العقائد ، وجعلوا ذلك من جملة أصولهم في الاعتقاد .
قال الإمام أبو بكر الآجري رحمه الله في كتابه "الشريعة" باب إيجاب حب بني هاشم أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم على جميع المؤمنين ( 5 / 2276 )
مانصه : ( واجب على كل مؤمن ومؤمنة محبة أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم : بنو هاشم ؛ علي بن أبي طالب وولده وذريته ، وفاطمة وولدها وذريتها ، والحسن والحسين وأولادهما وذريتهما ، وجعفر الطيار وولده وذريته ، وحمزة وولده والعباس وولده وذريته رضي الله عنهم ؛ هؤلاء أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واجب على المسلمين محبتهم ، وإكرامهم واحتمالهم وحسن مداراتهم ، والصبر عليهم ، والدعاء لهم ) .
وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره ( 6/199 ) : ( ولا ننكر الوصاة بأهل البيت ، والأمر بالإحسان إليهم ، واحترامهم وإكرامهم ، فإنهم من ذرية طاهرة ؛ من أشرف بيت وجد على وجه الأرض فخراً وحسباً ونسباً ، ولاسيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحية الواضحة الجلية ، كما كان عليه سلفهم ، كالعباس وبنيه وعلي وأهل ذريته رضي الله عنهم أجميعن ) .
وكلام أهل السنة والجماعة في هذا يطول . فإنا نشهد الله أنا نحب آل البيت ونجلهم ، ونعتقد فضلهم ، ولا نذكرهم إلا بالجميل ، وندفع عنهم كل اذى وقبيح ، ولا يعني هذا تفضيلهم على جيمع المؤمنين ، بل ننزلهم منازلهم اللائقة بهم ، من غير غلو أو جفاء . كما أنا لا ندعي لهم العصمة من الوقوع في الذنوب والمعاصي ، بل هم كسائر البشر في ذلك ..
وأنا لست بصدد الحديث عن فضائل أهل البيت أو ما هو الواجب تجاههم . وإنما هو حديث يدور حول أمر مهم جداً قد شاع وانتشر في الأزمان القديمة وفي زمننا هذا على الخصوص ، ألا وهو الانتساب إلى النبي صلى الله عليه وسلم لإثباب الشرف والنسب ، أو لمكاسب دنيوية وإلى غيرها من الأمور التي ستجدونها في ثنايا هذه الحلقة بإذن الله تعالى .
ملحوظة قبل الدخول إلى الموضوع وللأمانة العلمية .
هذه الحلقات هي عبارة عن تلخيص لبعض الأحاديث والآثار الواردة في الوعيد من أنه ينبغي التحرز من الانتساب إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا بحق من كتاب ( استجلاب ارتقاء الغرف ، بحب أقرباء الرسول صلى الله عليه وسلم وذوي الشرف ) ( 2 / 621 – 635 ) للحافظ شمس الدين محمد بن عبدالرحمن السخاوي ( ت 902هـ ) تحقيق : خالد بن أحمد الصمي بابطين . مع تعليق بسيط وشرح لمبهم ، والله الموفق .
والآن إلى الموضوع .
روى البخاري في صحيحه برقم ( 3509 ) في مناقب قريش عن واثلة بن الأسق رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن من أعظم الفرى أن يدعي الرجل إلى غير أبيه ، أو يُري عينه ما لم تر ، أو يقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل ) .
وروى البخاري في صحيحه برقم ( 3508 ) عن أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( ليس من رجل ادعى لغير أبيه – وهو يعلمه – إلا كَفَرَ ، ومن ادعى قوماً ليس له فيهم نسب فليتبوأ مقعده من النار).
وللبخاري أيضاً برقم (6767 ) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من ادعى إلى غير أبيه – وهو يعلم أنه غير أبيه – فالجنة عليه حرام ) .
وأخرج ابن ماجة في سننه برقم ( 2658 ) بإسناد صحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من انتسب إلى غير أبيه ، أو تولى غير مواليه فعليه لعنه الله والملائكة والناس أجمعين ).
وأخرج ابن ماجة أيضاً في سننه برقم ( 2793 ) بسند حسن صحيح عن عبد الله بن عمرو ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( كُفر بامررئ ادعاء نسب لايعرفه ، أو جحده ، وإن دق ) .
وكذا هو عند أحمد كما في المسند ( 2 / 215 ) بلفظ : ( كفر تبرؤ من نسب وإن دق ، وادعاء نسب لا يُعرف ) .
وفي مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجة للبوصيري ( 2/ 326 ) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من ادعى إلى غير أبيه لم يرح ريح الجنة ، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام ) . والحديث صحيح .
إلى غير ذلك من الأحاديث التي حَمْلُها على ظاهرها يحتاج إلى تأويل ، و ذلك بالمستحيل له ، أو بأن المراد كفر النعمة ، وإن لم تحمل على ظاهرها ؛ فيكون ورود ذلك على سبيل التغليظ لزجر فاعله ، أو المراد بإطلاق الكفر أن فاعله فعل فعلاً شبيهاً بفعل أهل الكفر .
انظر شرح مسلم للنووي ( 2 / 57 ) والفتح لابن حجر ( 6 / 540 ) .
وقد ثبت عن مالك بن أنس رحمه الله أنه قال : من انتسب إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم – يعني بالباطل – يضرب ضرباً وجيعاً ويُشَهَّر ، ويحبس طويلاً حتى تظهر توبته ؛ لأنه استخفاف بحق الرسول صلى الله عليه وسلم . أورده السمهودي في جواهر العقدين ( ص 470 – 471 ) .
ورحم الله مالكاً ، كيف لوأدرك من يتسارع إلى ثبوت ما يغلب على الظن التوقف في صحته من ذلك بدون تثبت ، غير ملاحظ ما يترتب عليه من الأحكام ، غافلاً عن هذا الوعيد الذي كان معيناً على الوقوع فيه ؟! إما بثبوته ولو بالإعذار فيه ؛ طمعاً في الشيء التافه الحقير ، قائلاً : الناس مؤتمنون على أنسابهم !! وهذا لعمري توسع غير مرضي .
فائدة ..
ذكر البقاعي في تاريخه الموسوم بـ إظهار العصر لأسرار أهل العصر في حوادث شهر محرم سنة ( 861هـ ) أن قاضي القضاة وشيخ الإسلام السعد الديري الحنفي ، ضرب أحمد المغربل المشهور بـ ( المدني ) ضرباً شديداً ! وطوفه في القاهرة ينادى عليه : ( هذا جزاء من يريد أن يدخل في النسب الشريف بغير حق ! ) .
وسبب ذلك أن المذكور أراد أن يثبت أنه شريف ، وكذا غيره من الفجرة بواسطته ، وذلك أن اتفق مع بعض شهود الزور وادعى أنه من قرية الجعفرية ، وأن أهلها من أولاد جعفر الصادق ، فما كفاه كذبه لنفسه حتى أراد أن يثبت الشرف لجميع أهل القرية !! مع أن المذكور من أولاد نصارى بعض قرى دمياط ، وأنه كان يحترف بالغربلة في بولاق . انظر تاريخ البقاعي ( 2 / 230 – 231 ) .
روى مسلم في صحيحه برقم ( 934 ) عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن : الفخر في الأحساب ، والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم ، والنياحة ). الحديث .
ومن هنا توقف كثير ممن أدركناه من قضاة العدل عن التعرض لذلك ثبوتاً ونفياً ؛ للرهبة مما قدمته .
فائدة أخرى ..
كتب في محضر يتضمن نفي طائفة عن الشرف - أي عن شرف الانتساب إلى آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم - ؛ الأستاذ أبو حامد الإسفرايني ، وأبو الحسين القدوري ، وناهيك بهم جلالة في طائفة من العلماء المقتدى بهم ؛ والله الموفق .
قلت : كُتب هذا المحضر الذي أشار إليه المصنف ، ببغداد في شهر ربيع الآخر سنة ( 402 هـ ) وهو يتضمن نفي نسب الخلفاء العلويين الفاطميين المصريين ، وأنهم لا نسب لهم إلى علي بن أبي طالب ، ولا إلى فاطمة كما يزعمون !! بل هم أدعياء كذبة ، عبيديون كفّار فسّاق فجّار ، ملحدون زنادقة معطلون ، وللإسلام جاحدون ، ولمذهب المجوسية والثنوية معتقدون .
وقد وقع على هذا المحضر جماعة من العلماء والقضاة والأشراف ، والعدول والصالحين والفقهاء والمحدثين . انظر نص هذا المحضر وأسماء من وقع عليه من العلماء والأشراف والأعيان وما يتعلق به في : المنتظم لابن الجوزي ( 15 / 82 – 83 ) والكامل في التاريخ لابن الأثير ( 8 / 73 ) والبداية والنهاية لابن كثير ( 11 / 369 ) ومرآة الجنان لليافعي ( 3 / 48 ) والنجوم الزاهرة لابن تغري بردي ( 4 / 230 ) .
ثم عمل ببغداد محضر آخر سنة ( 444هـ ) يتضمن القدح في نسبهم ، وعمل به عدة نسخ وسُيّر في البلاد ، وشيع بين الحاضر والباد . انظر : المنتظم ( 15 / 336 ) و الكامل في التاريخ ( 8/ 310 ) والبداية والنهاية ( 12 / 68 ) ومرآة الجنان ( 3 / 48 ) .
وللعلم ؛ فإنه مع جميع ما سبق ، فقد أجهد المؤرخ الشهير المقريزي نفسه بما لا طائل تحته وصحح نسبهم الدعي ، وأشاد بذكر مناقب خلفائهم ، وفخّم من شأنهم ! انظر : المواعظ والاعتبار ( 1 / 356 ) . وله كتاب آخر سماه ( اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفا ) .
وكذا فعل العلامة ابن خلدون في مقدمته ( ص 121 ) واعتبر التشكيك في نسبهم بعض مظاهر التوهم في التاريخ .
وللفائدة يمكن مراجعة رسالة لطيفة بعنوان ( قضية نسب الفاطميين أمام منهج النقد التاريخي ) للدكتور عبد الحليم عويس ، من منشورات مكتبة ابن تيمية ، المحرق ، البحرين .
وقبل أن أختم تفضلوا هذه الأبيات الجميلة المتعلقة بالموضوع .
قال ابن خلكان وغيره : أكثر أهل العلم لا يصححون نسب المهدي عبيد الله جد خلفاء مصر ، حتى أن العزيز في أول ولايته صعد المنبر يوم الجمعة ، فوجد هناك رقعة فيها :-
إذا سمعنا نسباً منكرا *** نبكي على المنبر والجامع
إن كنت فيما تدعي صادقاً *** فاذكر أباً بعد الأب الرابع
وإن ترد تحقيق ما قلته *** فانسب لنا نفسك كالطالع
أولا دع الأنساب مستورة *** وادخل بنا في النسب الواسع
فإن أنساب بني هاشم *** يقصر عنها طمع الطامع
أوردها الذهبي في السير ( 15 / 168 – 169 ) وابن خلكان في وفيات الأعيان ( 5 / 373 ) وابن قاضي شهبة في الكواكب الدرية ( ص 209 ) .
والحمد لله رب العالمين ..