عرض مشاركة واحدة
قديم 08-11-2011, 03:34 PM   #2
عضو منتديات العبار
 
الصورة الرمزية سلطان الهديب
 
تاريخ التسجيل: Jun 2011
المشاركات: 33
افتراضي

نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

هؤلاء الناس الذين يبدو عليهم عدم التحضر لا يعدمون تفاصيل المجاملة. فحين أدرك زعيم

القبيلة أن القوم ينصبون خيامنا في مكان ناءٍ أصدر أوامره على الفور بأن تزال خيام البدو

التي كانت تحيط بخيمته كي تنصب خيامنا بجواره، ولم يسمح لنا بالخروج من خيمته إلا بعد

أن قدموا لنا الطعامهذا الوقت الطويل أمضيته أسجل انطباعاتي في دفتر الذكريات. الأمر

الذي جعلهم يعتقدون - وفقا لما قاله خوسيه - أن زيارتنا كانت تهدف إلى الكتابة عن

عاداتهم، وهو أمر لا يروقهم. وهكذا فليس أمامي من حيلة إلا أن أحفظ دفتري وأنتظر.


ها هو ذا الطعام جاهز يا سادة.


أحضر أربعة من البدو صينيتين نحاسيتين كبيرتين يمسكون بكلتيهما من مقابضهما، وتبدو

الاثنتان غير عميقتين، ولكن قطرهما يصل إلى المتر. فوق كل واحدة من الصينيتين وضعت

كمية من الأرز المطبوخ وخروف مشوي قطع إلى أوصال صغيرة. زعيم القبيلة وابنه – ولي

عهده – واثنان أو ثلاثة من علية القبيلة جلسوا معنا متحلقين حول إحدى الصينيتين. كما

كانت الصينية الأخرى تلوح لنا وسط ندمائها

ليس هناك من خوف على المائدة من الحركة، لأنه لا أحد ينتظر أن تقوم زلازل. بعد ذلك ألقى

الرئيس العجوز نظرة على الحضور كي يتأكد من أن الجميع كانوا في أماكنهم، فمد يده اليمنى

وتناول بها قبضة من الأرز الدسم فكبسها، وأخذ يحركها حتى أصبحت على هيئة كرة ثم

رفعها إلى فمه وابتلعها كاملة كما لو كان ديكا رومياً. وبعده شرع بقية البدو يقلدونه فيما

يفعل، ويواصلون ابتلاع الكريات بسهولة وسرعة مذهلتين. كان خادمنا أراكيل (Arakil) قد

تنبه أن يحضر لنا معه بعض الملاعق، فأخذنا نتناول بها الأرز المطبوخ بالماء المبتل بمرق

الخروف. أما قطع اللحم المشوية التي تخرج مدسوسة في الأرز فكان لها طعم طيّب ويمكن

أكلها، ولكن الأمر المنفِّر هو أن يعمد البدو إلى إخراج العظم نصف المقروض من أفواههم ثم

يلقون به مرة أخرى فوق الصينية حيث تختلط هذه العظام المنهوشة بالبقية التي لم تمس

بعد.



بقايا هذه الوليمة سوف تكون بمثابة المائدة الثانية التي تقدم للنساء والأطفال والخدم من

أهل علية القوم الذين سيجدونها مأدبة شهية.

وما إن تنتهي الوليمة حتى يحضر أحد العبيد جفنة، وصابوناً، ومنشفة وقدراً فيه ماء يصبه


على أيدي الضيوف، فيغسلونها جميعاً بكل عناية ودقة، هذا بالإضافة إلى غسل الفم والأسنان

التي يهتمون بها أيما اهتمام



نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

صورة للشيخ فرحان بن هديب وبعض ربعه وأبناءه برجس وصالح تصوير ماكس فون 1899





بعض الحاضرين من البدو تبدو على ملامحهم العظمة والوجاهة. كما تبدو فيها وفي

شخصيتهم الخطوط الصحيحة للسلالة القوقازية النبيلة التي هي أصل الأوربيين المنتمين إلى

هذا العرق. وهؤلاء يبدون طوال القامة، وجهاء، يمشون مشية هادئة، ولكنها سهلة،

أساريرهم تحرقها الشمس، ولكن جلودهم صافية، لا تجعدات فيها. لحاهم الحريرية السوداء

أو الكستنائية، وأنوفهم الحادة، وشفاههم الرقيقة، وعيونهم السوداء أو المائلة إلى الخضرة،

كلها تكمل المجموع الظريف لهؤلاء البدو الرحل الذين يفدون في تواضع وأدب إلى الزيارة

دون أن يكون هناك مجال يظهرون فيه ما بهم من غرائز لخيانة همجية هم على استعداد لها

في كل لحظة. هنا نحن أولاء نتعرفهم تباعاً بناء على أعمالهم حتى نُكوِّن انطباعاً يكاد يكاد

يكون قريباً من تحديدنا لذكائهم وأخلاقياتهم .


ذاك المساء أعاد الزيارة إلينا زعيم القبيلة فرحان باشا، يصحبه ابنه الأكبر الذي سوف يخلفه

في قيادة القبيلة. هذا الوريث الذي كان في السادسة والعشرين من عمره، وذا قامة قصيرة،

وبنية جسمانية ضعيفة، سبق أن أمضى وقتاً في القسطنطينية بدعوة من السلطان الذي أجزل

له العطاء والمكافأة، وخلع عليه اسم قائد الجيوش السلطانية، كما خلع على أبيه لقب الباشا،

وهي منح شرفية عادة ما كان يمنحها السلطان عبدالحميد لرؤساء قبائل البدو حتى يجعلهم

مؤيدين له، ويدخل عليهم السعادة والغبطة.

حينما دلف الشاب الوريث إلينا وعرف منصبي نادي مترجمنا حتى يخبرني بأننا زملاء له،

فقد كان هو الآخر يشغل منصب القائد. وهنا قبلت مرحباً بهذا الأمر من قبل هذا الزميل غير

المعصوم، مُذكّراً إياي بأنه لا يصدر بين الأصدقاء أي نوع من المضايقة حتى ولو في

الجحيم، وتعمدت أن أظهر مزيداً من الاهتمام به فجلست إلى جواره

وشيئاً فشيئاً توافد علينا علية القوم، فجلسوا القرفصاء حول الميدان الذي تكوّن منه مخيمنا،

ثم بدأ عرض أفراس هؤلاء الحضور بنظام وهدوء

لا أدري كم كان عدد الجياد التي عايناهان لقد كانت كثيرة، ومعظمها رديء بكل صراحة، ولكن

بعضها كان يستحق أن يفحص بدقة وعناية أكثر. ولكنهم بلا شك لحظوا أن اللجنة لم تظهر

ذلك الاهتمام الذي ينشدونهن فانصرفوا بالجياد مباشرة بمجرد أن أنتهينا من مشاهدتها.

وهكذا انتهى العرض عند غروب الشمس، وحينما تمكنت من الاستمتاع برؤية ذلك المنظر

العظيم الذي رسمته الطبيعة في عمق أفق الصحراء.






نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة


إن أذواد الجمال الكثيرة، والقَدْر الغفير من قطعان الأغنام والماعز قد بدأت تعود إلى المخيم

من مراعيها البعيدة، تلفها سحابة من الغبار، وتلونها أشعة الشمس الملونة عند غروبها.

وشيئاً فشيئاً بدأ الضجيج يتزايد جرّاء حركة كل هذه القطعان، فجعلنا نميز الأصوات الموزعة

والملحنة التي كان الرعاة يحدون مواشيهم. كما كنا نلحظ ظلال الإبل التي كانت ترتسم

بالآلاف في صفاء الشفق الغائب؛ وفي ذلك الوقت كان الرعاة يطلقون بين الحين والآخر

طلقات نارية وهمية كي يُفزعوا الضباع وبنات آوى التي تختبيء بين المواشي.

تلك الموجة الحية التي تتقدم عبر بحر من الرمال كانت مهمة في تأمل تلك اللوحة الجميلة

التي رسمها ظلام الليل. وحين بدأت أسرح بأفكاري، لا أدري شيئاً عن الزمان أو المكان الذي

كنت فيه آنذاك، ظننت للحظة أنني حلَّقتُ في الأزمنة السحيقة ليعقوب، وانتهى بي الأمر إلى

التمتمة ببعض الأدعية.


لقد قرأت ذات مرة لكاتب فرنسي على اطلاع على هذه المواقع قوله: إن الذي لا يضع أملاً في

العناية الإلهية عليه أن يمضي ليلة في الصحراء.

عندما وصلت قطعان من آلاف الإبل وأسراب لا تحصى من الماعز والخراف إلى المخيم

توزعت كقطعة أرض لمجلس البلدية، هنا وهناك حول خيام أصحابها بحيث تستقبلها النساء

أو الأولاد الذين يداعبونها ثم يبركونها على الأرض، وهو عمل ينفذونه بكل وداعة وألفة لا

تصدق. في حين يربطون واحداً أو اثنين أو ثلاثة من الجياد قرب باب الخيمة، وعدداً مماثلاً

من الرماح الطويلة المغروسة في الأرض دليلاً على استعداد المحاربين من أبناء الأسرة

للدفاع عن ممتلكاتها.


وقد وعدنا الباشا (زعيم) القبيلة بأنه سوف يرسل لنا مبعوثين إلى مضارب أخرى موالية له

حتى نتمكن من رؤية ما لديهم من جياد. ولكن بدأت بين أعضاء اللجنة حالة من الشك (لم أكن

مشاركاً فيها) في أنهم يخفون عنا السلالات الجيدة. وحتى نخرج من حالة الشك هذه اقترحت

أن يقولوا لزميلي البدوي: إنني أرغب في القيام بجولة على ظهر الحصان عبر خيام قبيلته

القوية، ولم يمانعنا ابن زعيم القبيلة هذا المطلب، وعرض أن نترافق في الصباح الباكر من

اليوم التالي، والذي سوف نتجول فيه وبصحبتنا المترجم والطبيب البيطري عبر كل مكان.

وحين عزمنا على الانصراف طلباً للراحة في خيامنا، تقدم إلى خوسيه ثمانية من محاربي

القبيلة مدججين بالسلاح، وهم يحملون سيوفاً طويلة ومحدبة، أنصالها لامعة وتتدلى من

احزمة علقت على أكتافهم اليمنى؛ وتنبئ هذه السيوف بكل وضوح عن القرون الكثيرة التي

مضت عليها منذ صنعها إلى اليوم. وهناك كذلك خنجران أو ثلاثة كنا نرى مقابضها فوق

الزنار الذي يشدون به أوساطهم، وفوقها الكنانات الطويلة المعترضة على صدورهم وتعج

بخراطيش الطلقات الخاصة بالسلاح الناري الذي كان يحمله هؤلاء المحاربون المدافعون

عنا. كانوا يُمثلون الحرس الليلي الذي بعثه باشا القبيلة للمحافظة على أمننا. وعندما قدموا

لنا أنفسهم توجهوا إلى أماكن حراستهم منقسمين إلى اربعة أزواج بحيث أحاطوا بخيامنا.

ولقد جلسوا على الطريقة العربية قابعين على الأرض بحث تكاد تصل ركبة كل منهم إلى

مستوى لحيته ..!!
يتبع
سلطان الهديب متواجد حالياً   رد مع اقتباس