يعطينا هذا مبرراً واقعياً لاختفاء الكثير من مُسَمَّيَات القبائل وانقراضها، وهي التي كانت معروفة في قرون سابقة مثل: بكر، حنيفة، ربيعة؛ لأن العرب ينظرون الى عشيرتهم المباشرة والتي يتولد منها الاحساس بوحدتهم مع أبناء قبيلتهم وشعورهم إنهم قبيلة واحدة تحت مُسَمَّى مُعَيَّن، ويبقى الاسم الذي تفرعوا منه حيّاً في ذاكرتهم فترة من الزمن حتى يتم نسيانه بشكل نهائي، وبذلك تنقرض القبيلة كإسم وليس بالطبع بانقراض أبنائها، ولا يعرف إلا اذا كان قد تمّ تدوينه من قبل مؤلف أو باحث في الفترة التي كان خلالها حيّاً. وهناك ملحوظة هامة وهي: أن الفرع قد يستقل ويشتهر كقبيلة في ضل وجود الأصل وبقائه، فعلى سبيل المثال وُجدت قبيلة (بلي) في الوقت الذي لا زال أصلها (قضاعة) موجوداً، ومع الوقت اختفى اسم قضاعة من الوجود بينما لا تزال قبيلة بلي موجودة حتى يومنا هذا.
يجدر أن نقول : إنَّ الجهل - إنْ وُجد - في نسب أي قبيلة أو أسرة معاصرة لا شأن له بمكانة القبيلة، ومكانة القبيلة تتحدد بكونها عمود نسب قائم بحد ذاته يعرفه الناس المعاصرون له.
إخضاع نسب قبيلة عنـزة لقواعد النسب :
أول قاعدة ننطلق منها هي : (الناس مؤتمنون على أنسابهم).
ولن نعتبرها فقهية شرعية؛ لأن الحديث الوارد بذلك ضعيف، ولا يصحُّ نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، بل هو مأثور عن الإمام مالك، لذلك نعتبر هذه القاعدة قاعدة علمية بحتة بعد أنْ نُضيف اليها عبارة: مالم يدّعوا الشرفا؛ لأنها تُضاف في أدبيات القضاء الإسلامي، فتُصبح : (الناس مؤتمنون على أنسابهم مالم يدّعوا الشرف). ويستخدم القضاة هذه القاعدة لتحديد المواريث خاصة، وليس لمجرد أن يقول فلان : إنه من القبيلة الفلانية، ونستخدمها عندما يتم الحديث عن الأنساب والقبائل والأسر الحاضرة والحية، ولا يجوز استخدامها في ترجيح نسب قبيلة حية إلى قبيلة منقرضة، لا سيّما إنْ كان الاسم القديم له من الشرف ما يتعدّى القبيلة الحية، فمثلاً لو سألنا أيّ شخص عن اسمه الثلاثي وأجاب، علينا تصديقه طبقاً لهذه القاعدة إذا لم توجد شبهة أو مبرر لدى الشخص لعدم ذكر اسمه الحقيقي، وعند سؤال أيّ شخص من عامة قبيلة عنـزة عن نسبه سيقول من (عنـزة وائل)، أو (من عناز بن وائل)، أو يقول: (العنـزي الوائلي)، دون ذكر تفصيلات أخرى، ودون ذكر لأسماء بكر أو تغلب أو غيرها، بل دون ان يجيب عن وائل نفسه، من يكون؟! ومن أبوه؟!
ويُجمع أبناء عنـزة قاطبة على أنهم من قبيلة عنـزة الوائلية بلا استثناء؛ حتى وإنْ جهلوا أصل مُسمّيات عنـزة ووائل، ولو كان هذا النسب (نسب عنـزة الحالية الى وائل) هو وليد هذا الزمن الحديث ولم يظهر إلا توّاً، لقلنا إنَّ هذا النسب غير ثابت وغير مؤكد، إلا أنَّ الاسم (عنـزة الوائلية) عرفه كثير من أبناء عنـزة في الخمسة قرون السابقة، فهذا النجيدي المصلوخي العنـزي يحث قبيلته على مناصرته، ويقول قبل أكثر من ثلاثة قرون :
قم يا نديبـي بالعجـل لا تونـا000أزبن على اللي زبنوا كل خايف
ربعي بني وايل سنادي وعزوتي000مروين حد مصقلات الرهايـف
سلم على صبيان وايل جميعهـم000كبارهـم وصغارهـم باللفايـف
سلم على كل المشايخ وحثهـم000من روس لابة ما خلطهم عذايف
سلم وعلمهـم بيـوم جرالنـا000جتنا الجموع اللي غلبها ردايف
نطلبكم الفزعه ترى اليوم يومكم000قبل مع الأجناب ننهج عرايـف
فهذه القصيدة من أحد شعراء قبيلة عنـزة يؤكد إن القبيلة : (عنـزة) تعرف بـ (عيال وايل)، وهو لم يقرأ أي كتاب في الأنساب أو غيره؛ إنما هي عزوة هذه القبيلة وقد توارثوها، ومعظم الشعر النبطي القديم الذي ذكر أو أشار الى قبيلة عنـزة استخدم كلمة (وائل). وقد عرف أبناء القبائل العربية الأخرى بسليقتهم اسم وائل وأنه يشير إلى قبيلة عنـزة تحديداً وتخصيصاً وليس لغيرها، فهذا الأمير عبيد بن رشيد يتحدث عن انتصاره على قبيلة عنـزة في القصيم سنة 1257هـ/1841م حيث قال :
الحمد لله والي عـدل الموازيـن000صارت على القصمان واولاد وايل
وهذه قصيدة الشاعر محمد أبا الروس من الذُوبَة من قبيلة حرب بالشيخ علّوش بن ظويهر من وُلْد سليمان من عنـزة، عندما نَقَدَ القهوة في ديوان ابن رشيد بحائل :
تستاهل الكيف الْحَمَر يابن وايل000وأنت الذي تستاهل الكيف كلّه
ياللي نقدته وسط ديوان حايل000لولاك يا علّوش ماحد فطن له
ولم تُعرف قبيلة أو أسرة أخرى في العشرة قرون الماضية بأنهم (أبناء وائل)، أو (وائليين)، إلا قبيلة عنزة الحالية، ومن يتفرع منها عُرْفاً وشُهْرة.
نخلص إلى أنَّ عُرْف قبيلة عنـزة المتوارث وليس الطاريء يؤكد إنهم (قبيلة عنزة الوائلية)، فهم مأمونون على أنسابهم بموجب قاعدة : (الناس مؤتمنون على انسابهم)، والتي ذكرناها آنفاً، أما من يدّعون أنهم من وائل فقط وليس من عنزة فهم طارئون بهذا الأمر، ولم يذكره إلا بعض مثقفيهم المعاصرين، وهؤلاء ينشرون كلامهم لبعض أبناء قبيلتهم، ثم يريدون تضليل الناس بذكر هذه القاعدة، ولو كان نسبهم في وائل كما يدّعون لعرف الناس عنهم ذلك بلا بحث أو تنقيب. ويبقى أن نعرف من هو وائل هذا الذي تنسب إليه قبيلة عنـزة الحالية؟
أقول : هنا تنتهي هذه القاعدة، وتصبح عديمة المفعول، ولا بد من الرجوع إلى كتب الأنساب والتاريخ؛ لعل فيها ما يجيب على هذا السؤال، وإذا لم نجد دليلاً قوياً ومرجحاً، فيجب علينا الاكتفاء باسم القبيلة الحالي دون أي ذكر أو تخرصات من شأنها تشتيت الناس بأقوال المؤلف فلان أو علاّن.
بالرجوع إلى كتب الأنساب والتاريخ، نجد عنـزة تنسب مباشرة الى أسد بن ربيعة، بينما ينسب وائل الى قاسط وهو حفيد لأسد بن ربيعة، فعنـزة واسمه عامر يكون شقيق الجد السادس لوائل، ومع هذا فإن العديد من النصوص أكدت أن عنـزة بن أسد قد دخلت في بكر بن وائل، وصارت حيّاً فيها، لا تُقال مشيخة ربيعة في فرع بكر، وإن قبيلة أخرى تشكلت داخل قبيلة ربيعة، وهي قبيلة اللهازم التي قال عنها القلقشندي : « اللهازم بطن من بكر بن وائل العدنانية ».
وقد فصل آخرون بطن اللهازم المذكور منهم مرتضى الزبيدي في كتاب: تاج العروس حيث قال : « وعَنَزَةُ بنُ أَسَدِ بن ربيعةَ بن نزار بن مَعَدٍّ، واسمه عَمْرو: بطْن من أَسَد وهو من اللهازم ».
وهناك نص للنويري في كتاب: نهاية الأرب في فنون الأدب، يثبت إن اللهازم قبيلة من أسد ومنها عنـزة، حيث يقول : « وأما أسد بن ربيعة فمن ثلاث بطون: أفصى بن دعميّ بن جديلة بن أسد، وعنـزة بن اللهازم بن أسد، واسمه عمر، وعميرة بن أسد؛ وإلى عنـزة ينسب كل عنـزيّ محرك النون ».
وهناك الكثير من النصوص التي تؤكد دخول عنـزة بن أسد في بكر بن وائل، فعنـزة وبكر فرعان من جد واحد هو أسد بن ربيعة، فعرف اسم هذا الجمع فيما بعد بـ (عنـزة) وصيحتهم: (وائل)، فعنـزة نسبة إلى الفرع عنزة بن أسد، ووائل العزوة والنسب الأعلى نسبة إلى بكر بن وائل، وبسبب اقتران الفرعين عنـزة ووائل قيل مع تقادم الزمن على القبيلة : عنّاز بن وائل، وهو الاسم المتداول اليوم بين أبناء القبيلة، ولا يزال العنـزيون ينسبون أنفسهم نسبة لاقتران الفرعين مع بعضهما البعض.
والمتتبع لأحداث هذين الفرعين من ربيعة، يجد أنهما يشكلان عشيرة عنـزة الوائلية الحالية، فعنـزة إذن كانت تعد فرعاً من بكر بن وائل، ويجمعهما في بكر فرع اللهازم، حيث تنقسم بكر بن وائل إلى فرعين هما : اللهازم والذهلين. وقد أشار إلى ذلك ابن الأثير والقلقشندي والنويري وغيرهم، وأكد هذا التفريع لقبيلة بكر بما فيها عنـزة الشاعر جرير بن عطية التميمي إذ قال :
وأرضى بحكم الحيّ بكر بن وائل000إذا كان في الذهليـن أو اللهازم
وقال الأصفهاني في مصنفه الشهير : الأغاني، في ترجمته للشاعر أبي جلدة اليشكري : « بطون بكر بن وائل على جذمين، جذم يقال له : الذهلان، وجذم يقال له: اللهازم. فالذهلان: بنو شيبان بن ثعلبة بن يشكر بن وائل، وبنو ضبيعة بن ربيعة. واللهازم : قيس بن ثعلبة، وتيم اللات بن ثعلبة، وعجل بن لجيم، وعنزة بن أسدٍ بن ربيعة ».
ومما يؤكد إن عنـزة ظَلَّت متصلة ببكر بن وائل طوال التاريخ، وتعتبر في عدادها، حيث إن عنـزة هو شقيق الجد السادس لوائل بن قاسط، ماورد في حوادث التاريخ عن بكر بن وائل، ويقترن فيه اسم عنـزة في الجاهلية، حيث حدثت معركة الشيطين بين بكر وتميم، وكان شاعر بكر من عنـزة واسمه رشيد بن رميض العنـزي، وهو القائل بهذا اليوم :
وما كان بين الشيطين ولعلـع000لنسوتنـا إلا مناقـل أربــع
فجئنا بجمع لم ير الناس مثله000يكاد له ظهر الوريعـة يظلـع
فأرعن دهم تنسل البلق وسطه000له عارض فيه المنيـة تلمـع
إذا حان منه منزل القوم أوقدت000لأخـراه أولاه سنـا وتيفعـوا
ورد عليه شاعر تميم بقوله :
وجئتم بها مذمومة عنزيـة000يكاد من اللؤم المبين تظلع
وما منكم أفناء بكر بن وائل000لغارتنـا إلا ذلـول موقـع
ومن حوادث العصر الإسلامي :
اشتراك عنـزة وبكر في حرب الردة يوم جواثا سنة 12هـ/633م، التي أوردها المؤرخ الطبري في تاريخه، وفتحهم لعين التمر سنة 16هـ/637م، حيث كان على جيش بكر كل من: المثنى بن حارثة الشيباني والأفكل العنـزي، وقتالهم مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه في معركة الجمل سنة 36هـ/656م، وصفين سنة 37هـ/657م، ولن نجد حادثة تخوضها بكر إلا وعنـزة فيها؛ مما يدل عل الاقتران الذي لا ريب فيه، وسجله التاريخ، وطفحت به كتب التراث العربي القديم. ومن ثم توارث أبناء هذه القبيلة مُسَمَّى (وائل) جيلاً بعد جيل مع شيوع اسم عنـزة الأقرب في عمود النسب لربيعة الجد الأعلى، ودخلت تغلب بن وائل فيما دخلت به عنـزة وأصبحت في اللهازم، ثم عمم اسم عنـزة عليهم؛ لأن اسم العم أولى بالغلبة والشيوع من اسم ابن الأخ، فعنـزة هو عم بكر وتغلب بسابع جد، وهو جديلة الذي هو شقيق عنـزة بن أسد بن ربيعة.
القاعدة الثانية
الأنساب تُعرف بالشيوع والتواتر والرفع بالبطون وليس بتسلسل الآباء.
قال ابن حزم في كتاب جمهرة أنساب العرب : « فعدنان من ولد إسماعيل بلا شك في ذلك، إلا أن تسمية الآباء بينه وبين إسماعيل قد جهلت جملة، وتكلم في ذلك قوم بما لا يصح؛ فلم نتعرض لذكر ما لا يقين فيه؛ وأما كل من تناسل من ولد إسماعيل - عليه السلام - فقد غبروا ودثروا، ولا نعرف أحداً منهم على أديم الأرض أصلاً، حاشا ما ذكرنا من أن بني عدنان من ولده فقط ».
فهذا النص من ابن حزم - رحمه الله - يؤكد عدم ضرورة من يتحدث عن تسمية الآباء في النسب، والاكتفاء بالقطع بالعموم، ولإسقاط هذه القاعدة على نسب عنـزة الحالية نستطيع أن نقول : إن كل عنـزة الحالية هم من بكر بن وائل، أو كما يعرفون ببادية العرب ووفق السليقة (بني وائل) بالعموم دون تفصيل؛ لأن ذلك شاع وتواتر في كتب المتقدمين، ويتوافق مع العرف المتوارث عن قبيلة عنـزة الحالية في شبه جزيرة العرب وصلتها بوائل، والتي اختفى الكثير من مسمياتها في عصرنا الحالي، ويمكن أن نعتبرها قد انقرضت بالمسمى ولا يعرف من له صلة بها من عرب الزمان إلا من يحتفظ بدليل قوي مثل عنزة ولقبها الوائلي؛ لذلك فهو - أي ابن حزم - يقر قاعدة أخرى مهمة ذات صلة بقاعدة الشيوع والاستفاضة عن صحة الانتساب للقبائل المنقرضة أو المنقطعة بالاسم بدون دليل قوي، فيقول ما نصه : « وأما الذين يسمونهم العرب والنسابون العرب العاربة، كجرهم، وقطورا، وطسم، وجديس، وعاد، وثمود، وأميم، وإرم، وغيرهم، فقد بادوا؛ فليس على أديم الأرض أحد يصحح أنه منهم، إلا أن يدعي قوم ما لا يثبت » .
فقبائل مثل : جرهم وقطورا وطسم وجديس، لم يكن لها وجود في عهد ابن حزم، لذلك لا يوجد على الارض من يصح أنه منهم إلا بدليل وقرائن قوية لا تقبل الشك، وقس على ذلك مسميات: ربيعة وبكر وتغلب وحنيفة وقيس عيلان، فهي مسميات قد انقرضت منذ عدة قرون، ولا يصح الانتساب اليها إلا بدليل، وهذا لم يصح إلا لقبيلة عنـزة بعمومها، إذ ثبت دخولها في بكر بن وائل، وتم اتصالها بالتالي بقبيلة ربيعة رغم انقراض الاسم الأخير، أو مثل بلي وجهينة الثابت نسبهم في قضاعة رغم انقراض اسم قضاعة من الوجود.
وعلينا في حالة عدم القدرة على إثبات نسب قبيلة ما إلى القبائل القديمة المنقرضة، أن نكتفي باسم القبيلة الحي وما يتفرع منه دون تخرصات أخرى، وعلى هذا فليس من المنطق أن نعزل بطناً أو فخذاً منسوباً بالعموم والشهرة إلى قبيلة، وذو اسم معاصر ونزعم له النسب المباشر للأسماء القديمة، مثل القول : بأن أسرة آل سعود من بني حنيفة وليست من عنـزة أو بني وائل بمفهومها المعاصر، أو مثل القول : إن الهزازنة الحاليين ليسوا من الجلاس بل هم من عنـزة القديمة بمعناها القديم فقط، وأن هذا يناقض نسبهم الحالي، وغير ذلك من التخرصات التي أطلت علينا مؤخراً من قبل بعض المؤلفين المعاصرين، الذين لم يعرفوا الجمع بين الموروث المشهور، وماهو مدون بسجلات التاريخ القديمة. فنحن عندما نبحث في نسب وجذور قبيلة عنـزة الوائلية، ونردها إلى أصولها القديمة الحالية إنما نأخذ البحث بإسمي عنـزة ووائل فقط؛ لأنهما الأقدم، وما تحت هذين الإسمين من فروع معاصرة مستجدة عبر الزمن إنما يفسر بما يفسر به نسب عنـزة وعزوة وائل، فإن صح إن عنـزة التي لها النسب هي عنـزة بن ربيعة ووائل هو وائل ربيعة فكل من ينضم لعنـزة المعاصرة بالشهرة والعموم جارٍ عليه هذا، فهم عنـزيين وائليين في العموم.