مفاكهة الأحباب في أزكى مقامات الأنساب
بقلم
أحمد بن سليمان ابوبكرة الترباني
ذهبت الى أحد الأصدقاء , كي أسأل عن حاله , لا عن طريق ضرب جواله , فذهبت إليه حتى وصلت الدار , فسمعت تناشد أشعار , وكأنهم يستشهدون بصحيح الأخبار , فطرقت بابه , وأنا أنتظر عتابه , فخرج قائلا : أهلا بالترباني ! الزائر الغائب والقاطع الواصل .
فقلت له : ألم تسمع قول الشاعر :
عليك بإقلال الزيارة إنها
إذا كثرت كانت الى الهجر مسلكا
فإني رأيت الغيث يسأم دائما
ويسأل بالأيدي إذا هو أمسكا
فضحك وقال : أدخل , تشتعل في بيتي مناظرة بين الأصحاب في مسائل الأنساب , فدخلت عليهم والنقاش شديد بينهم , فسلمت ثم جلست , ثم عاد الأصحاب الى نقاشهم في الأنساب , في مسألة ( نسب بنو معن و نسب بنو عبد المدان ) حتى أشتد بينهم الحجاج وأمتد اللجاج , فلم يبق للجدال مطرح ولا للمراء مسرح , فكثر بينهم اللغط ولم يتبين الصواب من الغلط , فزجرهم صاحب البيت وأمرهم بالسكوت .
فلما سكنت الزماجر وصمت المزجور والزاجر , قلت : يا قوم , أنبئكم بتأويله , وأميز صحيح القول من عليله .
فقام أحد الأشخاص وزجر بطرفه الجلاس وقال : تفضل يا ترباني .
فقلت : أريد أن أمتع الأسماع بما راق وراع , وأعطيكم البرهان في نسب بنو معن وعبدالمدان .
أعلموا أن بنو عبد المدان من أشراف اليمن وبهم يضرب المثل في الشرف , وهم أبناء عبد المدان بن الديان بن قطن بن زياد بن الحارث بن مالك بن ربيعة بن مالك بن كعب ابن الحارث بن كعب من بجيلة بن مذحج .
وقد قال شاعر رسول الله ( ص ) حسان بن ثابت :
وقد كنا نقول إذا رأينا
لذي جسم يعد وذي بيان
كأنك أيها المعطي بيانا
وجسما من بني عبد المدان
وقد حكى الأصمعي : أن يزيد بن عبدالمدان عندما أراد أن يخطب ابنة أمية بن الاسكر الكناني قال : يا أمية , أنا ابن الديان صاحب الكثيب ورئيس مذحج ومكلم العقاب .
وقال له يزيد:
أمي يا ابن الأسكر بن مدلج
لا تجعلن هوازنا كمذحج
لا النبع في مغرسه كالعوسج
ولا الصريح المحض كالممزج
أما مسألة ( نسب بنو معن ) , فهم بنو باهلة , وباهلة امرأة من همدان تزوجت معن بن أعصر بن سعيد بن قيس عيلان , فنسب ولده اليها .
فقلت لهم : هذا هو جوابي .
فقام أحد الأشخاص فشمخ بأنفه صلفا , ونأى بجانبه أنفا , وقال لي :
يا ترباني , عندي مسائل أجب عنها أن كنت من الأوائل .
وحين سمعت كلامه , سارعت الى صدر الرمح , وقبلت بالحرب دون الصلح , وتسربلت لباس الحجة , ثم قال لي :
ماهو نسب فيروز الحميري , والأوزاعي , والشعبي ؟
فقلت :
قل لمن يلغز المسائل اني
كاشف سرها الذي تخفيه
أما الأول : فهو فيروز الحميري من الديلم , نزل حمير فقيل الحميري .
وأما الثاني : فإن الأوزاعي شيباني , فنزل الأوزع فقيل الأوزاعي .
وأما الثالث : فهو عامر الشعبي من همدان , ومن كان يقال له : شعبي ويسكن العراق فهو همداني , ومن كان يقال له : شعبي ويسكن اليمن فهو حميري .
ثم قال يريد إحراجي : من هي أم عرب الحجاز يا ترباني ؟
فقلت له : السؤال أنثى والجواب ذكر .
أم عرب الحجاز هي خندف وهي : ليلى بنت حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة , وهي امرأة الياس بن مضر , ولدت منه عمرا وهو مدركة , وعامرا وهو طابخة وعميرا وهو قمعة .
فندت لهم ابل , فخرجوا في طلبها , فأدركها عمرو فسمي مدركة , وأقتنص عامر ارنبا فطبخها , فسمي طابخة , وأنقمع عمير في بيته فسمي قمعة , فلما أبطؤوا عليها خرجت في أثرهم فقال : ما زلت أخندف في إثركم ؟ فلقبت خندف , وهي أم عرب الحجاز .
فصرخ السائل قائلا : إن جوابك شحيح وقد أبتعدت عن المعنى الصحيح .
فقلت له : يا هذا , إنك مدلس وعلى الجلاس تلبس , فلا تناقش ولا في المسائل تفاتش .
فقال لي : والذي رفع السماء وأنزل الماء , إني باحث عن الحق أريد الفائدة والإستفادة .
فزجره أحد الأشخاص بطرفه وأستوقفه بكفه وقال :
أنت مراوغ وعن الحق ضائع , فأصنت للترباني .
فقالوا : أكمل يا ترباني .
فقلت : لا أريد الكلام في هذا المقام , فهو مأرب ليس فيه حفاوة , ومشرب لم يبق له عندي حلاوة .
فقام الرجل يقسم بتراب أبويه ويتفصحن كأنه سيباويه .
فقلت له : يا هذا , أستغفر خالقك ولا تحلف بتراب والدك , ألم تسمع قول النبي (ص) : من حلف بغير الله فقد أشرك .
فسكت , ثم جاء فصافحني وعن الجدال قال : سامحني .
فقلت له : إياك والجدال , ألم تسمع قول ابن الرومي :
لأولي الجدال إذا غدوا لجدالهم
حجج تضل عن الهدى وتجور
وهن كانية الزجاج تصادمت
فهوت وكل مكاسر مكسور
فالقاتل المقتول ثم لوهنه
ولضعفه والأسر المأسور
فعندما رفع الليل راياته , وحي الداعي الى صلاته .
قلت : أستأذنكم أريد العودة , فودعتهم ورجعت الى داري .
كتبه :
أحمد بن سليمان ابو بكرة الترباني
الاردن