والقسوة هي الموت، والقساوة عبارة عن غلظة مع صلابة، وهي عبارة عن خلو القلب من الإنابة والإذعان لآيات الله تعالى، وهي أشد عقوبات القلب على الاطلاق، ولذا ضُرِبت بها قلوب الكافرين والمنافقين.
قال مالك بن دينار: "إن لله عقوبات في القلوب والابدان: ضنك في المعيشة، ووهن في العبادة، وما ضُرِب عبد بغقوبة أعظم من قسوة القلب" (حلية الأولياء: 6/287)
وأكَّد على نفس المعنى حذيفة المرعشي فقال: "ما أُصيب أحد بمصيبة أعظم من قساوة قلبه" (حلية الأولياء: 8/269)
وتأمل قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:74]
إشارة إلى ما ذكره الله من آية إحياء القتيل أو إلى جميع العظات والقوارع التي مرَّت ببني إسرائيل، والتي تزول منها الجبال وتلين لها الصخور؛ وكان الأجدر أن تلين لها قلوبهم، أما وقد لم تفعل فقد استحقت أن توصف بالقسوة لنفورها من الإيمان بعد معاينة أسبابه وموجباته، فهذه القلوب كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ، وقد كانت صلابة الحجر أعرف للناس وأشهر مثل يضرب للقساوة لأنها محسوسة لديهم، ومع ذلك فقد عذر الله الحجارة لكنه لم يعذر القاسية قلوبهم فقال: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ} .
وتأمل قول الله المُعجِز يصف صاحب القلب القاسي: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} [البقرة:81]، أي استولت عليه، وشملت جميع أحواله حتى صار محاطا بها لا ينفذ إليه من حوله شيء، وذلك أن من أذنب ذنبا ولم يُقلع عنه جرَّه ذلك إلى العودة لمثله، والانهماك فيه، وارتكاب ما هو أكبر منه؛ حتى تستولي عليه الذنوب، وتأخذ بمجامع قلبه، فيتحول طبعه مائلا إلى المعاصي، مستحسنا إياها، معتقدا أن لا لذة سواها، مُبغِضا لمن يحول بينه وبينها، مُكذِّبا لمن ينصحه بالبعد عنها. قال تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون} [الروم:10].
فتصبح ذنوبه كالخيمة تحجب عنه كل شيء: نظر الله إليه، ونعيم الجنة المنتظر، وعذاب النار المترقَّب، وكيد إبليس المتحفِّز، وحسرة الملائكة المشفقة، كل ذلك يغيب عنه عند وقوعه في الذنب ولا يراه، وهو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: « لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن» [رواه البخاري]
كتاب (بأي قلبٍ نلقاه) للدكتور خالد أبو شادي