لوعة الإغتراب في دوافع الإنتساب
بقلم
أحمد بن سليمان ابو بكرة الترباني
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
قد جرى في بعض أندية النسب الذي فاح في هذا العصر ريحه , وأضاءت مصابيحة , بعض الأمور التي يحار فيها الفهم , ويفرط فيها الوهم , ويكثر فيها حاطب ليل أو جالب بغال وخيل , وبه يتبين صاحب العقل ويمتاز عن غيرة بالفضل , ولهذا قد طلب مني بعض الأصحاب أن أغوص في مسائل الأنساب , وقد لبيت دعوتهم تلبية المطيع , وبذلت في طلبهم جهد المستطيع , في ذكر نوادر من علوم الأنساب , يتسامر بها الأصحاب , كي ينسيهم هموم الإغتراب , رسالة بعنوان ( لوعة الإغتراب في دوافع الإنتساب ) وقد وشحتها بجميل الايات ومحاسن الحكايات .
إلا انني لا أكاد أخلص من غمر جاهل في الأنساب أو ذي غمر متجاهل , يطعن في ( احمد ابوبكرة الترباني ) بجهل أو تغابي , لكن من نظر بعين المعقول , وعرف مباني الأصول , عرف انني صاحب برهان وحجة على منهج علماء المحجة .
ولهذا فإن البعض يزفر من مقالاتي زفرة القيظ , وكاد يتفجر من الغيظ , وهؤلاء تجد بضاعتهم مزجاة في النسب , ولا يعرف عنهم له طلب , ولهذا تغيضهم مقالات (ابوبكرة الترباني ) حين طلبت النسب وأقتباسه , والطمع في ارتداء لباسه , أباحث كل من جل وقل , وأستسقي الوبل الطل , ولا أبالي بلمز جاهل وغمز متجاهل , فإن الأعمال بالنيات وبها انعقاد العقود الدينيات , وبها أستفتح رسالتي .
إعلم رحمك الله أن كشف دعي النسب , يعرف بالإمتحان والطلب , والدافع لبعض الأشخاص للإنتساب لغير أبيه , ثلاث ( الفقر , الشهرة , نشر المذهب )
فإن هذه الدوافع الثلاث يسلكها الدعي كي يجلس على سنام الأنساب , كي ( يزيل فقره , أو يطلب شهرة , او ينشر مذهبه ) .
ـ الدافع الأول ( الفقر )
حين ينعق الفقر في بعض بيوت الأشخاص , يركن بعض من ضعف إيمانه الى الكذب والإنتساب الى قبائل لها ( مال وجاه ) .
فيدعي أنه من بطونهم , وقد أصاب قومه المر والقهر , فغادروا البلاد من سالف الأزمان , ويقول : إلا اننا لم نجهل أنسابنا , كي ينعم عليه أثرياء القبيلة المال والمسكن .
كما حصل مع ابا زيد السروجي حين نفذ ماله , قال الحريري في ( مقامته الثانية ) : ( فلما حللت حلوان , وقد بلوت الإخوان , وسبرت الأوزان , وخبرت ماشان وزان , ألفيت بها (ابا زيد السروجي ) يتقلب في قوالب الأنساب , ويخبط في أساليب الإكتساب , فيدعي تارة أنه من ال ساسان , ويعتزي مرة الى أقيال غسان .... .) .
قلت : ال ساسان ملوك الفرس , وغسان هم الغساسنة ابناء مازن بن الأزد , وقد أصبح ابو زيد السروجي متقلب , مرة غساني ومرة ساساني , حسب المناخ واجواء التلون للكسب في إدعاء النسب , حتى يحصل على نقود أو مسكن .
وقد روي أن أحد فلاحون العجم , طرد من بلده لذنب اقترفه فيها , فدخل في بلاد أعراب جذام , وأدعى انه من أبناء حرام , فأجتمع أعراب جذام في ناديهم ومعهم هذا الرجل الدعي , فصدقوه بعضهم وكذبوه بعضهم , فقال رجل من الأعراب : نستدعي نسابة جذام فهم الحكم , فجاء شيخ كبير قد شاب عارضاه , فنظر هذا الشيخ النسابة الى ذلك الدعي فقال : أما زرقة العيون فليست منا , وقال : يا هذا إذا كنت غريب تريد حاجة أعطيناك , أما إذا كنت طالب نسب فلا نسب لك عندنا .
الدافع الثاني ( طلب الشهرة )
من دوافع إدعاء النسب طلب الشهرة , فمنهم من يدعي أنه من الأشراف حتى تكون له منزلة عند الناس , ومنهم يدعي انه من قبيله قد ذاع صيت فرسانها , حتى يقال عنه : ذلك من قبيلة الفرسان .
وهم يتقلبون في الإنتساب كما تقلب ابا زيد السروجي , وهؤلاء يجب أن يمتحنهم نسابة القبيلة حتى يعلم صدقهم من كذبهم كما صنع نسابة جذام مع ذلك الرجل الذي هو من فلاحون العجم .
الدافع الثالث ( نشر المذهب )
قد ينتسب رافضي الى ال البيت , ويثبت ذلك بالحجج والوثائق المزيفة , فيصبح هذا الرافضي من الأشراف أو الاسياد , ويذهب الى القبائل ويدعي انه من بني هاشم , فيصدقوه , ثم يتاح له نشر مذهبة في الطعن في أصحاب محمد ـ علية السلام ـ كما صنع عبيدالله الفاطمي .
قال ابن كثير في ( البداية والنهاية ) (11/188) : أول خلفاء الفاطميين الأدعياء الكذبة هو ابو محمد عبيدالله المدعي انه علوي ..... .
وقال ابن خلكان في ( الوفيات ) (3/133) : والمحققون ينكرون دعواه في النسب .
وأيضا قد يأتي رجل ينتسب الى قبيلة لها جاه في البلاد , فينتسب اليهم ويدعي انه منهم , ثم حين يحصل مقصوده , يقوم بنشر الفكر الضال بين الناس , كنشر الفكر الخارجي بين ابناء القبيلة كتكفير الحكام والخروج عليهم وسبهم وشتمهم , وهذه من أخبث الأفكار , فإن منهج الصحابة رضوان الله عليهم , الصبر على جور الحكام والسمع والطاعة ولزوم البيت , أخرج البخاري في ( صحيحه ) (323) عن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال :من رأى من اميره شيئا يكرهه فليصبر , فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات فميتته جاهلية .
وقال الامام ابن تيمية ( مجموع الفتاوى ) (28/166) : الصبر على جور الائمة اصل من اصول اهل السنة .
فهذا هو المنهج الصحيح الذي سار عليه اصحاب رسول الله ـ عليه السلام ـ .
وذلك الرجل الذي انتسب الى تلك القبيلة انتسب اليها حتى يتسنى له نشر مذهبه الضال ويحتمي في القبيلة التي انتسب اليها .
ولهذا يجب امتحان الأدعياء , حتى يكشف امرهم , ويجب ان يكون النسابة صاحب فراسة , كفراسة ( إياس القاضي ) .
ومما يروى عن فراسة إياس القاضي , أنه سمع نباح كلب لم يره , فقال : هذا نباح كلب مربوط على شفير بئر , فنظروا أصحابه فكان كما قال , فقيل له كيف عرفت يا إياس ؟ قال : سمعت عند نباحه دويا , ثم سمعت بعده صدى يجيبه فعلمت انه عند بئر .
ومن فراسته ايضا , أنه رأى اثر اعتلاف بعير فقال : هذا بعير اعور , فنظروا أصحابه فكان كما قيل , فقال لهم إياس : لقد وجدت اعتلافه من جهة واحدة .
وأخبار إياس تطول , صنف فيها المدائني كتاب سماه ( زكن إياس ) والزكن في اللغة : التشبية .
ولهذا يجب على النسابون ان يكونوا أصحاب فراسة وقيافة , والقيافة أصل أصيل في معرفة انساب الناس .
والإدعاء كثير , حتى ان الإدعاء يقع في السنة , فتجد رجل يدعي انه سني , فهناك أمور يعرف بها كذبة من صدقة , وهو إمتحانه بالرجال , كإمتحانه بحماد بن سلمة واحمد بن حنبل وابن معين وعلي بن المديني وغيرهم من علماء السنة , فإن ذمهم كان مبتدع يدعي انه سني , وإن أثنى عليهم كان سني صادق الإدعاء , وفي زماننا هذا فإن الدعي يمتحن بعلماء السنة في هذا الزمان كالإمام الالباني وابن باز وابن عثيمين ـ رحمهم الله ـ ويمتحن ايضا بالإمام الناقد ربيع بن هادي المدخلي , فهو عندنا محنه يمتحن به .
وكذلك يقع الإدعاء في الحرف والمهن , فتجد رجل يدعي انه نجار أو حداد أو خياط ..... الخ فيعرف هذا بالإمتحان .
وفي الختام أسأل الله أن يجعل هذه الرسالة في ميزان حسناتي يوم القيامة .
كتبه :
أحمد بن سليمان ابو بكرة الترباني