ـ 10 ـ
28 ـ قال الكاتبُ: [وقد دخلت عنزة بن أسد في أخوتهم بكر بن وائل وصارت من اللهازم وأصبحت قبيلة بكرية بالحلف] ص35
الحديثُ عن الأحلافِ بين القبائلِ طويلٌ له فروعٌ وذيولٌ، ويكفينا هنا إشاراتٌ تَكْشف خَطَلَ هذا الرأي.
فالكاتبُ يُريد من قارئِه أنْ يُسَلِّمَ بأنَّ كلَّ حِلْفٍ في العربِ هو ـ بالضَّرورةِ ـ سقوطٌ لنسبِ إحدى القبيلتين ودخولِها في نسبِ القبيلةِ الأخرى، فيُخْبِرنا هنا أنَّ عنزة وبكراً تحالفتا فسَقَطَ نسبُ عنزة وصارَتْ بَكْريَّةً!
وليس لنا حاجةٌ في التَّطويلِ وجَرِّ الحديثِ المفصَّلِ عن الأحلافِ... ولكنَّنا نَنْقُضُ هذه الدَّعوى من قريبٍ بحُجَّتين:
1 ـ ليس كلُّ حِلْفٍ بين العربِ يَنْتَهِي بسقوطِ نسبِ أحد الحليفين ودخولِه في نسبِ الآخرِ، وأسُوقُ للمتابعِ هذه الأحلافَ الجاهليَّةَ بين القبائلِ، ومن هذه الأحلافِ ما تطاوَلَ حتى دَخَلَ العربُ في الإسلامِ، فمِن ذلك: حِلْفُ غطفانَ وأسدٍ ـ وكانا يُسَمَّيان: الحليفين ـ ودَخَلَ معهما فيه طَيِّئٌ، وحِلْفُ ربيعةَ واليمنِ؛ وهذا حِلْفٌ جاهلِيٌّ جُدِّدَ في صَدْرِ الإسلامِ في العراقِ، وما زال قويَّاً إلى ما بعد مُنْتَصَفِ القَرْنِ الثَّاني حتى قَطَعَهُ مَعْنُ بنُ زائدةَ الشَّيْبانيُّ حين وَلِيَ اليمنَ، وحِلْفُ تميمٍ وكَلْبٍ، وحِلْفُ الأوسِ ومُزَيْنةَ. فهذا طَرَفٌ من الأحلافِ الجاهليَّةِ ـ وغيرُها كثيرٌ ـ فهل سَقَطَ نسبُ إحدى هذه القبائلِ العِظامِ إلى نسبِ الأخرى؟!
ودونَ هذه الأحلافِ العظيمةِ أحلافٌ أخرى كانت تَقَعُ بين العشائرِ والبطونِ في القبيلةِ الواحدةِ، كما وقع في قريشٍ في حِلْفَي المُطَيِّبين ولَعَقَةِ الدَّمِ، وفي غطفانَ في حِلْفِ المِحاشِ، وفي تميمٍ في حِلْفِ البراجمِ أو حِلْفِ بني حَنْظَلَةَ وبني عَمْرو، وفي مَذْحِجٍ في حِلْفِ جَنْبٍ.
فهذه أحلافٌ وَقَعَتْ في الجاهليَّةٌ وظَلَّتْ قروناً في الإسلامِ فما وَجَدْنا قبيلةً منها تُسْقِطُ نسبَها الأوَّلَ وتَنْدَرِجُ في نسبٍ آخرَ. ولا يُنْكَرُ أنَّ من الحُلَفاءِ مَن يَسْقُطُ نسبُه إلى حلِيفِه، فهذا واقعٌ وشواهدُه معروفةٌ، ولكنَّ هذا أكثرُ ما يَقَعُ في عشيرةٍ صغيرةٍ أو أهلِ بيتٍ واحدٍ.
فإنْ صَحَّ هذا ـ وهو صحيحٌ مستقيمٌ وللهِ الحمدُ ـ فتكونُ دَعْوَى الكاتبِ المجرَّدَةُ باطلةً إلا إنْ أقامَ دليلاً صريحاً عليها.
2 ـ والكاتبُ يَعْتَصِرُ الأخبارَ ليَسْتَقْطِرَ الوَهْمَ!! والأمرُ أهْوَنُ شُقَّةً عليه مِمَّا كَلَّفَ نَفْسَه وعنَّاها!! فإنَّنا نَعْرفُ أنَّ الحليفَ حين يَسْقطُ نسبُه الأوَّلُ يُنْسَبُ إلى القبيلةِ التي دَخَلَ فيها، كما نُسِبَ "عَرْفَجَةُ بنُ هَرْثَمَةَ" إلى بَجِيلةَ وهو من الأزْدِ.
فهلَ يَعْرِفُ الكاتبُ رجلاً من عنزة بنِ أسدٍ نُسِبَ إلى بكرِ بنِ وائلٍ في خبرٍ صحيحٍ صريحٍ فيُقالُ: فلانٌ البَكْرِيُّ؟؟!!
أمَّا أنا فأعْرِفُ في الجاهليَّةِ: رُشَيْدَ بنَ رُمَيْضٍ العَنَزِيَّ ولَمْ يُنْسَبْ إلى غيرِ عنزة بنِ أسدٍ. وأعْرِفُ في القَرْنِ الأوَّلِ: عمرانَ بنَ عصامٍ العَنَزِيَّ ولَمْ يُنْسَبْ إلى غيرِ عنزة بنِ أسدٍ، وأعْرِفُ في القَرْنِ الثَّاني: مندل بن عليٍّ العَنَزِيَّ ولَمْ يُنْسَبْ إلى غيرِ عنزة بنِ أسدٍ، وأعْرِفُ في القَرْنِ الثَّالثِ: الحسَنَ بنَ عُلَيْلٍ العَنَزِيَّ ولَمْ يُنْسَبْ إلى غيرِ عنزة بنِ أسدٍ. فهذه أربعةُ قرونٍ أو أكثرُ، فمتى كانَ سُقُوطُ نسبِ العنزيِّين إلى بكرِ بنِ وائلٍ؟!
وهذا شاهدٌ من أشعارِ أهلِ الجاهليَّةِ على إبطالِ دَعْوَى الكاتبِ؛ فحين افتَخَر رُشَيْدُ بنُ رُمَيْضٍ العَنَزِيُّ بيومِ الشَّيِّطَيْنِ ـ حين أوْقَعَتْ بكرٌ بتميمٍ والرِّبابِ ـ أجابَهُ مُحْرِزٌ الضَّبِّيُّ فقال:
فَخَرْتُمْ بيَوْمِ الشَّيِّطَيْنِ! وغَيْرُكُمْ = يَضُرُّ بيَوْمِ الشَّيِّطَيْنِ ويَنْفَعُ
وجِئْتُمْ بها مَذْمُومةً عَنَزِيَّةً = تكادُ من اللُّؤْمِ المُبَيِّنِ تَظْلَعُ!
فالضَّبِّيُّ يقولُ: لا تَفْخَرَنَّ أيُّها العَنَزِيُّ بهذا اليومِ؛ فليس لكم فيه ذِكْرٌ، وإنَّما الذِّكْرُ فيه لغيرِكُم ( فمَنْ هؤلاءِ؟! أليسُوا بكرَ بنَ وائلٍ؟! )، وما افتخارُكَ به أيُّها العَنَزِيُّ إلا كِذْبةٌ مَذْمومةٌ!!
فلَوْ كانَ العَنَزِيُّ من بكرٍ هل يَكُونُ لكلامِ الضَّبِّيِّ وَجْهٌ؟؟!!
ولتُوقِعَ أبياتَ الضَّبِّيِّ في حاقِّ مَوْضِعِها اقْرُنْها بقَوْلِ الأخطلِ في هجاءِ جريرٍ حين يقول:
أجريرٌ إنَّكَ والذي تَسْمُو لَهُ = كعَسِيفةٍ فَخَرَتْ بحِدْجِ حَصَانِ
أتَعُدُّ مَأثُرةً لغَيْرِكَ فَخْرُها = وسَناؤُها في سالفِ الأزمانِ؟!
أي: أتَفْتَخِرُ بمآثرَ ليْسَتْ لقومِك!! فإنَّكَ إذْ تفعَلُ ذلك كالعسِيفةِ (الجارية) التي تَفْخَرُ بمَرْكَبِ سَيِّدتِها ( الحَصَان) فلَيْسَ لَهَا من فَخْرِها إلا الادِّعاءُ!!
ـ يتبع إن شاء الله ـ