كيفية الاستفادة من الأرشيف العثماني وآلية العمل فيه
((1))
كلمة في اهتمام العثمانيين بالتوثيق
من أهم مزايا الدولة العثمانية أنها حافظت على وثائقها ومقتنياتها لتاريخها الممتد لمدة ستة قرون، ولم تهمل أمرها لعواقب الدهر والتلف والنسيان.
في رحلتي قبل الأخيرة إلى الأرشيف العثماني (في عام 2006م)، حصلت على كتاب باللغة التركية، صدر عن إدارة الأرشيف العثماني بإستانبول، ويمكن ترجمته بـ: تاريخ الأرشيف العثماني من خلال الوثائق[1]. هذا الكتاب الذي يقع في مجلدين من القطع الكبير، قد أجاب على بعض ما كان يدور في ذهني من أسئلة، بشأن الاهتمام الذي أولته الدولة العثمانية بالتوثيق، منذ عهد مبكر، وكيفية الحفاظ على الوثائق التاريخية القديمة، وجمعها في إدارة خاصة سميت بخزانة الأوراق، التي تشكل منها الأرشيف العثماني الحالي. والاهتمام الذي أولته الدولة العثمانية لصون تلك الوثائق التاريخية وحفظها، لم يكن خاصاً بحال السلم، أو عهود الانتعاش الاقتصادي فحسب؛ وإنما حتى في حالة حرب مع الدول الأخرى.. وبغض النظر عما احتواه الكتاب من مباحث قيمة، وصور للأوامر السلطانية إلى المسؤولين في مختلف الدوائر الحكومية وفي مختلف العهود بشراء الصناديق والأكياس والأقفال وغير ذلك من الأدوات التي تحفظ الوثائق من خلالها، وكذلك الأوامر الصادرة إلى مختلف الولايات العثمانية؛ لتدوين كل الأوراق الواردة إليها والصادرة منها في سجلات خاصة، وحسن حفظها وحمايتها، فإن كشف العديد من الجوانب التاريخية لأكثر من ست وثلاثين دولة قامت على أنقاض الدولة العثمانية، مدين لتلك الإجراءات الصارمة في حفظ جميع مراسلات الدولة العثمانية، الداخلية والخارجية، سواء المتعلقة بالفرد أو المجتمع، وسواء أكانت قضايا ثقافية أو اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية، وعدم إتلافها مهما كان موضوعها..
وكما هو معلوم فإن الوجود العثماني في بعض مناطق الجزيرة العربية، امتد أربعمائة سنة. وكان الحكم العثماني لبعض تلك المناطق صورياً، ولبعضها الأخرى حكماً مباشراً. وفي كلتا الحالتين احتفظت الدولة بالمراسلات التي أجرتها مع تلك المناطق، وصانتها من عواقب الدهر والإهمال. وعلى العكس من ذلك، فلا نجد المراسلات الواردة من الباب العالي إلى مختلف مناطق الجزيرة العربية، إلا نادراً. فقد فقدت تلك الوثائق مع جلاء القوات العثمانية عن المنطقة. الأمر الذي جعل من الباحث المتخصص في تاريخ الجزيرة العربية الحديث ممن يود الاستفادة من وثائق العهد العثماني، يتوجه إلى إستانبول؛ للبحث والاستفادة؛ في الوقت الذي كان الأصل فيه أن يجد الباحث تلك الوثائق في أماكنها التي تركها العثمانيون لما غادروا الجزيرة العربية.
ومع مرور الأيام والسنوات فإن الاهتمام بهذا الأرشيف من لدن الباحثين المتخصصين من أنحاء العالم، أصبح في ازدياد كبير. وإذا دخلتَ إلى الأرشيف، ولا سيما في بعض شهور الصيف، قد لا تجد كرسياً تجلس عليه؛ من كثرة عدد الباحثين القادمين من مختلف دول العالم. وعلى الرغم من عدم وجود علاقات للدولة العثمانية ببعض الدول التي ينتمي إليها بعض أولئك الباحثين، إلا أنهم يتعلمون اللغة العثمانية، ويتوجهون إلى الأرشيف؛ لإعداد أبحاث علمية من خلال الوثائق الموجودة فيه. والسبب المباشر في ذلك التوجه – حسب ظني – الاستفادة من خبرة الدولة العثمانية التي استمرت ستمائة سنة في الحكم، في التعامل مع مختلف الشعوب والدول، وفي مختلف الحقب التاريخية. ناهيك عن بعض الدول التي يعدّ التاريخ العثماني تاريخاً مشتركاً لها ولمدة أربعمائة سنة؛ إذ إن استفادة مثل هذه الدول من مقتنيات الأرشيف العثماني يعدّ أساسياً في توضيح جوانب عديدة من تاريخها المعاصر.
والحقيقة أن أبرز ما تتميز به وثائق الأرشيف العثماني، التأريخ بدقة للأحداث والوقائع التاريخية. وهو الأمر الذي لا نجده في الروايات التاريخية، كما لا نجده في بعض التواريخ المحلية، ولا سيما في الجزيرة العربية التي كان الاعتماد – شبه الكلي - في نقل الأحداث التاريخية على الذاكرة. ومن هنا فإن الرجوع إلى وثائق الأرشيف العثماني، سوف يثري الموضوعات التاريخية للجزيرة العربية، كما ينقل وجهة النظر العثمانية لكثير من قضايا المنطقة وبلسان رسمي ومصدر أولي. ولا سيما أن هذا المصدر يتكون من مراسلات إدارية، وليست مدونات أعدت للنشر. يضاف إلى ذلك ما تكشف عنه تلك الوثائق من موضوعات طريفة وجديدة عن تاريخ المنطقة.. وليس من الضرورة أن يكون كل تلك الموضوعات سياسية بحتة؛ بل هناك مئات الموضوعات الثقافية والاقتصادية والصحية والاجتماعية عن المنطقة. وحتى الموضوعات السياسية تحمل في طياتها أخباراً جديرة بالذكر والمعرفة. من ذلك على سبيل التمثيل: ما هي أوضاع الكتب والمكتبات في نجد قبل مائتي سنة تقريباً؟ هل الكتب المطبوعة كانت متداولة بيد العلماء، أم كان الاعتماد على الكتاب المخطوط؟ هل أرسل الإمام عبد العزيز بن محمد مندوباً عنه إلى إستانبول عام 1214هـ؟ وكم مكث مندوب الملك عبد العزيز الشيخ صالح العذل في إستانبول لما ذهب إليها عام 1325هـ؟ كم كان عدد الحجاج الواصلين بالبحر إلى جدة قبل مائة وعشرين سنة؟ ما هي الإحصاءات الخاصة بالأمراض الوبائية في الحجاز بالأرشيف العثماني؟ وهل بالإمكان إجراء مقارنة بين حالات الوباء في مجموع السنوات التي أصيبت بعض مناطق الحجاز بهذا المرض؟ هل وجدت المدارس الحكومية النظامية في الأحساء قبل فترة حكم السلطان عبد المجيد؟ وكم عدد الحاصلين على الوسام العثماني من زعماء وأعيان الجزيرة العربية؟..إلخ
إن تلك الأسئلة وغيرها مما يمكن أن تدور بخلد الباحثين في تاريخ الجزيرة العربية، يمكن العثور على أجوبة ضافية عليها في الأرشيف العثماني، أو عل أقل تقدير إشارات إليها. وبما أن مقتنيات هذا الأرشيف من الوثائق مدونة بالحرف العربي، وفيها آلاف الخطابات العربية، التي بعثها زعماء الجزيرة العربية وأعيانها في مختلف العهود التاريخية إلى الحكومة المركزية في إستانبول، فإن الاستفادة منها في كشف العديد من الجوانب التاريخية لبعض مناطق الجزيرة العربية ممكنة.
ولأذكر لكم هنا كلمة عن أهمية وثائق الأرشيف العثماني، وكيف أنها تكشف النقاب عن موضوعات تاريخية مهمة. فقد كانت والدة السلطان محمود الثاني "نقشي ديل" تعرف بأنها من النبيلات الفرنسيات Aimee du Buc de Rivery التي هُرّبت في طريقها إلى فرنسا من جزيرة مارتينيك إلى الدولة العثمانية (عام 1784م) – انتبهوا لهذه السنة -، وتزوجها السلطان عبد الحميد الأول، والد السلطان محمود الثاني. وكانت قريبة نسباًً لزوجة نابليون بونابرت Josephine وظهرت مجموعة من الأفلام والروايات التاريخية والمسرحيات على هذا الأساس. وبناءً على ذلك فقد جرى عزو الإصلاحات التي قام بها السلطان محمود الثاني إلى والدته الفرنسية حسب هذا الادعاء. إلى أن عثر المؤرخ التركي فكرت ساريجا أوغلو على وثيقة في الأرشيف العثماني، تفيد أن زوجة السلطان عبد الحميد الأول قد أنجبت قبل السلطان محمود الثاني ابناً آخر هو مراد (ولد عام 1783م)، وبنتاً هي صالحة (ولدت عام 1786م). وبناءً على ذلك فقد نسفت هذه الوثيقة تلك الرواية الفرنسية، وضربت بها عرض الحائط، وصححت خطأً امتدت لأكثر من قرنين من الزمان[2].
وبناءً على ما تتناوله وثائق الأرشيف العثماني من أحداث ووقائع لتاريخ العديد من مناطق الجزيرة العربية في العهد العثماني فلها قيمة تاريخية. ونظراً لكونها قد كتبت وأعدت من قبل أفراد الجيش العثماني من الضباط أو المفتشين والإداريين - وبما أنهم كانوا مضطرين لتقديم معلومات صحيحة في تقاريرهم تلك؛ لأنها تتعلق بأمن الدولة في هذه المناطق واستمرار وجودها - فلها قيمة موضوعية أيضاً.
إن هذه الوثائق مادة علمية جاهزة للباحثين الراغبين في دراسة تاريخ الجزيرة العربية وإجراء مقارنة بينها وبين المصادر التاريخية المعاصرة لها سواء كانت عربية أو عثمانية. وبناءً على ما سبق فيمكن للباحث اختيار موضوع معين من مئات الموضوعات الواردة في تلك الوثائق الكثيرة لنيل درجة علمية فيها، وذلك من خلال دراستها وإجلاء غوامضها وكشف ما يكتنفها من ملابسات. لكن على الباحث أن يتحلى بالصبر والمتابعة؛ للوصول إلى المعلومات التي يريدها.
[1]وعنوانه بلغته الأصلية: Belgelerle Arsivcilik Tarihimiz
[2]Murat Bardakci/Meger O Muthis Gozde Fransiz degil, Bizdenmis.- Hurriyet.- 46241 (4.11.2001).