يعد الشعر نوعاَ هاماَ في تجسيد حركة المجتمع بكل حثيثياته، إذا أنه يرصد الأشياء بكل تفاصيلها وتنوعاتها، يدخل الشعر في سرديات حياتنا المكتظة بالهوس والهدوء دون إستئذان، والشاعر الناجح هو من يحول القصيدة إلى منطقة جذب للقاريء، كونة يشتغل على كشف كل الإيجابيات والسلبيات التي تحدث في المجتمع، أن الشعر مخيلة وإستنباط ونص توثيقي للأشياء، الشعر الصحيح عملية بناء صعبة تحتاج هندسة وتخطيط وتنفيذ دقيق، الشاعر الكبير عبدالله بن عبار، يؤكد هذا النهج والتوجه، فالتجربة الحياتية والعمرية عنده لها دور فعال في هذا الشأن، فالتجارب المكتظة في حياتة أصبحت مثل سيرورة حركة الزمن ووفق تشعبات مختلفة، أن هاجسه أن يحول جدب القصيدة إلى ربيع، ونفورها المفعم بالغزل الجامح، إلى حكمة بليغة، وموعظة حسنة، مع مؤثرات إحساسه الداخلي بوجوب نثر تجاربه الشخصية إلى ذهنية المتلقي، الشاعر عبدالله بن عبار، له همومة وهواجسة ومعاناته، يحاول أن يجسد خبراته وتجاربه في تكوينات لونية تثير الكثير من المشاعر لدى المتلقين، عبدالله بن عبار، شاعر قدير، هاديء الطبع رزين، أخلاقه عالية، ولا يبوح بالكثير من الكلام، الدخول في عمقه صعب، والولوج في نفسيته ربما محال، ليس فيه غموض، ولا يحب التعالي، ولا عنده غرور، ولا يفقه معنى الذات، ولا نرجسية الأنا، لكنه حاملاَ لرسالة أبتغاها لنفسه، أفنى جل عمره في البحث والتقصي والتحري في الإنساب وقول الشعر والرواية، بلغ مقاماً محموداَ بين أفراد قبيلته وبين الآخرين، أهتم بالشعر وتعمق في قول النصح والوعظ والإرشاد، لشعره عمق ممزوج بوعي وحكمة ومعرفة وتجارب، وعنده قدره عجيبة بالتوسع والسرد في القول والوصف والتصوير، يتماهى تفاعلاَ مع الناس، رحيق القصيدة عنده ممزوج ببهجة المفردة، يطل على المتلقي من خلال نافذته المفتوحة والمتقدة من الرؤى، نصه يجيء دائماَ مشبعاً بالأفكار الناضجة نتيجة الخبرة، والتجربة المعاشة، وواقع الحال، شاعر ذو إنتاج غزير، تطرق في شعره إلى مختلف المجالات، بشكل خصب، تحول إلى واحد من الشعراء الذين يشار إليهم بالبنان، كتب العديد من القصائد، والف العديد من الكتب، لم ينهكه الشعر، بل هو الذي أنهك الشعر، وعسفه كما تعسف المهرة النافرة، أتسم شعره بالأشباع بالمعنى والمغزى والمراد، قصائده ثرية بالحكمة والرؤية المستفاضة، والموعظة الهادفة، والتبصر البليغ، شعره مثل درس تربوي عميق يزرع في الروح الدهشة والإكتساب والتعلم.
يقول في أحدى قصائدة الوعظية:
أفطن ترى نيبان بقعا مشاويك
وحذراك من بقعا تعضك بنيبان
دنياك يابن أدم تراها شرابيك
لو سانعت لازم تقودك بالأرسان
لو أضحكتك أيام لا بد تبكيك
غداره وفيها وساويس شيطان
حذراك منها وعدها من أعاديك
دنيا الشقا ما وفرت كل ديقان
يوم الحشر يالعبد مافيه تشكيك
فيه يتساوى كل راعي وسلطان
في ساعة ما ينفعونك بني خيك
ولا ظن يفزع لك قرايب وخلان
تنهج خلاوي ما تجد من يخاويك
أذكر مصيرك يم تدرج بالأكفان
حسبك عملك إليا تضايقت ينجيك
ولا فلا غيره رفاقه وصدقان
عملك في كل الطرايق يباريك
في يوم ينصب لك على الحق ميزان
لا تنخدع بالمال حاذور يغريك
من ينخدع بالمال خاسر وندمان
وترى الطغاة اللي عن الحق تعميك
أهل القلوب اللي عن الحق عميان
اللي على علوم الرذايل تربيك
ادنا خطاهم واهونه شرب دخان
بالناس تلقى البوم والصقر والديك
والثعلب المحتال والذيب سرحان
عليك بالطيب قباله يعليك
وإلا الردي قربه يحطك بالأطمان
عليك باللي بالبشاشه أيحييك
يضحك أحجاجه بالندى كل الأحيان
عليك باللي بالكرامة أيباديك
تعتز في قربه ولا قرب كوبان
إليا بدت لك لازمه قال لبيك
خل صدوق وصادق فيك ما خان
والفاهم المدرك برايه يقديك
وأهل الجهل دايم عن الحق عميان
وإليا ظهر علمك ترى الناس توذيك
أحفظ كرامة سمعتك قدر الأمكان
لشعر عبدالله بن عبار، نسق ونظم ومحاور أشتقها لنفسه وفق توجه فكري أرتضاه وعمل به، أخذها من ذلك الفضاء الصحراوي الممتد على حدود البصر، والذي لا يتناهى حده وبعده، أخذه من تلك النبتة الشمالية في تلك البيد الطافحة بالصفاء وأصوات الحداه على نوقهم بإتجاه العشب وقت الربيع، وتناخي الراحلون نحو الغيم، وصوت القطاء على الغدير، وبيوت الشعر المتناثرة في الخلاء الرحيب، وصور الضعائن، ولحظات الوداع، والأغتراب الطويل، له قدرة فائقة في إظهار الفكرة، وفق روابط لغوية لها وقعها وفعلها، يمتاز بالدقة في البحث والإستقصاء، ولا يحيد عن جادة الحق، لا يوجد في شعره رمزيه غامضة، ولا رمزية مكشوفة، شعره واقعي ومفهوم، وليس عصي عن الفهم والإدراك، الأفكار عنده بسيطه بطريقة منطقية يكسوها الصراحة والمنطق، تحقق التوازن بين اللفظ والمعنى، يحرص على تحقيق الوحده في الموضوع، يجيد استخدام التراكيب اللغوية المشتركة بقدرة عجيبة، وعنده قولبة لفظية خاصه به، في شعره تعبير وجداني، ومعنى رائق، قصيدته تجيء حينما تجيء متماسكة، ووحدتها متينة، وغرضها هادف.
الشاعر عبدالله بن عبار لا يحب الجحود والنكران، لذا تجيء قصائدة في هذا الفعل المر راكزة مثل رمح:
والـلــي تـجـاهــل خـدمـتــي لـلـبـديـده
الجـهـد يـشـكـر مـــا تـفـيـد الـجـحـاده
يبـغـي يـعـوق الـلـي يـواصــل فـديــده
والمـرجـلـه تـحـتـاج صـبــر وجـــلاده
يـفــرح بغـلـطـات الـرفـيـق الـزهـيــده
يشـمـت علـيـه ولا يـشـوف أجتـهـاده
شبـحـه قـريـب ولا أهـدافـه بـعـيـده
عينه على الصاحب سوات الجراده
جـوده علـى خـطـو القـرابـه عضـيـده
وأن جـت مـن القاصيـن يلـزم حـيـاده
مـثــل الـــذي يـرعــى بــدايــد لـبـيــده
حتـى سـطـا بعـظـم الـغـوارب شــداده
كـانــه غــيــور ودون حــقــه ولــيــده
يــذود عــن حـــد الـحـمـى والـسـيـاده
لا خـيـر بالـلـي مــا يـنـاطـح ضـديــده
مـا يـطـول العـمـر القصـيـر الـشـراده
عبدالله بن عبار واحد من أعمدة الشعر النبطي، وهو من أهم شعراء جيله، الذي أنتج عدداً من الشعراء، والذين تركوا بصمة عميقة في تاريخ الشعر النبطي، الشاعر عبدالله بن عبار كغيره من الشعراء تعرض لحالات من الهجوم المضاد، الإ أنه كان ينافح بشعره بكل ثقة وتميز وإقتدار:
عند الرجال الغانمـة طـاب مسعـاي
لا شـك مالـي جــاه عـنـد الدجـاجـه
عفن اللغا ما شاف رائح ولا جـاي
طـول الزمـن عنـد الحليلـة مـداجـه
وأن كان بياع البخت عاب شرواي
علـم الفضيلـه ثــار حـقـده وهـاجـه
يبحـث عـن الغـرات والعبـد خطـاي
لا شك مـا قولـه حديـث ابـن ماجـه
كـم واحـدٍ قلبـه مـن الحقـد بـه دايي
يفـوح مـن منـزف صديـده خراجـه
اللـي بهـرج الـزور بايـع وشــراي
مــا عـنـده الا الطهبـلـه واللجـاجـه
كـانـه تـشــدق كـــل حـاقــد وزراي
الـتـرك طـبــه والتـجـاهـل عـلاجــه
مانـي بحـال مـروج الهـرج شـنـاي
خـلـه يعـبـر عــن هــواه ومـزاجــه
الشاعر عبدالله بن عبار، يتماهى في شعره، يحمله معه كمحراث يساعده على ولوج القصيدة المبتغاة، يفتش عن المغامرة ولا يخيفه المجهول، وهو يقتحم ضباب الحياة بثقة وإعتزاز، يسير مهرولاَ نحو الحياة رغم السنين الطويلة التي يحملها على كاهله، يكره الجلوس في الأركان النائية، ويحب الحاضر بكل تجلياته، ويحث الشباب على صنع المستقبل بثبات ويقين، نصوص شعره عندما تأتي كأنها قادمة من مسام جلده، لديه حكايات وروايات ناصحة تضيء مجالس الحضور، الشعر عنده رمز وصورة ورساله هادفة، الحياة عنده ذكريات وتراكم معرفة، كل جزء من حياته الحاضرة له أثر من ماضية، لكنه لا يترك ماضية ولا يمارس عليه العقوق، يحاول أن يصنع فلسفة واقعية لحياة ممكنة، قصائدة لا أثر فيها للتكلف العميق، وبعيدة عن التقريرية والخطابية والشعارتية، ويطغى عليها الشفافية المحببة، وهو ماهر في توظيف المعاني وفق مفردة رسمها لنفسه، هي حصيلة ثقافته وفكره وذائقته، نصوصه الشعرية لها مكامن قوة، ولها دافع وهدف، الشاعر عبدالله بن عبار يعيش الآن حالة سكون وسلام وسكينة مع ذاته، تاركاَ سرد الحدث الماضوي بكل تفاصيله، متنفساً مضارعية الحياة الحاضرة، مقبلاَ على الله، داعياَ مناجياَ ومبتهلاَ، وفق تحول مرموق يليق به، ولا ريب أن ملكته الإبداعية في القول والتوليد طاغية عنده في كل الحالات، فالتوازن في الأسلوب من خلال التقارب بين الحس والتجربة لها خطى محسوبة في المفهوم والتعلم إبتداء من الجمل وإنتهاء بالبيت الشعري، أو بالمقطع الشعري، أو بالنص بأكمله، إضافة إلى عناصر الأسلوب: التركيب والتصوير، لذا فهو يجيد فن الجمع بين الأضداد، التي تدفع به نحو فضاءات الطرح، وصلب الموضوع:
يا لله يا رحمن يا خير مطلوب
يارب غيرك مالنا رب ثاني
نويت أوفر لحيتي وأقصر الثوب
وأشوم عن لعب الورق والأغاني
ونويت أغض الطرف عن كل رعبوب
وأكف عن شعر التغزل لساني
وأعرض عن الغايب ولوفيه شاذوب
وأصفح عن اللي في كلامه هجاني
الشاعر عبدالله بن عبار، لسان قومه، وعين مجتمعه، ورصاصة ضد أعداء وطنه، ومنبراَ حياَ في كل المجالس، صوته حاضراَ، وحضوره رزين، ورسالته الشعرية هادفة، لذا نقف بفخر وإعتزاز له ولشعره، ولتاريخة الشعري وسرده والرواية، نمارس معه الوفاء، ونرد له الجميل، ولا ننكر له العمل.