أخي أبو مشعل أرجو التعليق على هذا المبحث
باسمك اللهم خيرِ مفتتح، ثم الصلاة والسلام على عبدك ونبيك وخيرتك من خلقك...
قرأتُ منذ أشهُرٍ قلائل كتاب (بنو وائل في التاريخ)، فلم أر فيما قرأتُ فكرةً أشد اضطراباً ولا منهجاً مشعَّثاً ولا دليلاً أوهى من هذا الكتاب! ووَجَدْتُ الكاتبَ قد أخلَّ إخلالاً بالمنهج العلميّ، وعاثَ في تاريخِ العربِ وأنسابِهم عَيْثاً ليُلَفِّقَ الأدلَّةَ والشَّواهدَ على دَعْوَى رسخَتْ بالهَوَى الجامحِ في قلبِه قبل أنْ يَنْتصِبَ دليلُها الصَّريحُ في عقلِه!
وتذكَّرْتُ مقالةَ أبي عثمانَ ابنِ جِنِّي حين علَّقَ على (الجمهرة في اللغة) لأبي بكرٍ ابنِ دُرَيْدٍ فقال: [ أمَّا كتاب (الجمهرة) ففيه أيضاً من اضطراب التصنيف وفساد التصريف ما أعذر واضعه فيه؛ لبعده عن معرفة هذا الأمر. ولَمَّا كتَبْتُه وَقَّعْتُ في متونِه وحواشيهِ جميعاً من التنبيه على هذه المواضع ما استحيَيْتُ من كثرتِه! ثم لَمَّا طال عَلَيَّ أومَأْتُ إلى بعضِه وأضرَبْتُ البتة عن بعضِه! ].
فشَرَعْتُ ـ أداءً للأمانة ومحميةً لتراث الأمة ـ في كتابةِ مذكَّرةٍ وجيزة في (النقد التحليلي لكتاب: بنو وائل في التاريخ)، بَلَغْتُ فيها إلى أكثر من نِصْفِ الكتابِ. ثم رأيتُ ـ إتماماً للفائدةِ وتَعْجيلاً للمنفعةِ ـ أنْ أُلَخِّصَ منها أشياء فأطرحَها في شبكة الانترنت.
التعريف بالكتاب:
الكتاب: بنو وائل في التاريخ (دراسة تاريخية شاملة في نسب عنزة الحالية وعلاقتها بوائل ربيعة الشهير).
الكاتب: محمد بن عبد الله الرويلي.
عدد الصفحات: 183 صفحة.
الناشر: مكتبة التوبة ـ الرياض.
تاريخ النشر: الطبعة الأولى ـ 1428 هـ / 2007 م
المآخذ العامة على الكتاب:
1 ـ ضعف هيكل البحث: بناءً وانسجاماً.
فالمقدمة ذهبَتْ ـ في أربع صفحات ـ إلى هجرات عنزة في العصور الحديثة، وهذا ليس له علاقة بموضوع الكتاب! ثم يُشير الكاتب في الصفحة الأخيرة من المقدمة وبعجلٍ إلى تساؤلات البحث، وهذا من أركان المقدمة بالتأكيد. غير أنَّنا لا نَجِد شيئاً عن المنهج الذي سيسلكه الكاتب!!
وحين يَمْضِي الكاتب في كتابه تراه يتجاوز حدود المبحث الذي هو فيه ليَقْتحِم ـ غير مُنْتبهٍ ـ إلى المباحث الأخرى؛ فالمبحث الثاني عن (حلف اللهازم) تجاوز فيه الكاتب إلى العصر العباسي!! ثم عاد في المبحث الذي يليه مباشرةً إلى (قبائل ربيعة بعد الإسلام) وتحدَّث فيه الكاتب عن الأحداث في عصر الخلافة الراشدة ثم تجاوز إلى الأحداث في العصر الأموي!! وأدّى هذا إلى ضمور المبحث الثالث (قبائل ربيعة في العهد الأموي) فجاء في صفحتين فقط!! وهذا يعود إلى أمرين:
أ ـ ضعف بناء البحث وافتقاره للتسلسل المنطقي الذي يبني المباحث اللاحقة على ما قُرِّر في المباحث السابقة، مما سمح بتداخل المباحث.
ب ـ انفلات قلم الكاتب في أكثر من موضع لأدنى مناسبة فيستطرد ليُبْعِد عن حدود المباحث!
أمَّا بناء البحث على التسلسل التاريخي للعصور (الجاهلية فصدر الإسلام فالعصر الأموي فالعصر العباسي) فليس له ما يُبرّره، بل لعلّه من أسباب ضعف الانسجام الظاهر بين مباحث الكتاب! وإنَّما كان ينبغي على الكاتب أنْ يبني مباحثه بحسب التطورات التي ذكرها في كتابه للقبائل الربعية، وهذه التطورات غير مرتبطة بلحظة قيام دولة وسقوط أخرى، فمثلاً: نفهم من الكاتب أنّ وضع القبائل الربعية لم يتغيّر عمّا هو عليه في العصر الأموي إلا بعد قرنين من قيام الدولة العباسية! فهل يصح أنْ نجعل قيام الدولة العباسية بداية مرحلة جديدة (أي: مبحث جديد) مع أنّها لم تُغيّر شيئاً؟!
ومن قصور البناء المنهجي للكتاب أنّ الكاتب ختم كتابه بمبحثين: الأول بعنوان (وائل في الموروث الشعري) والآخر بعنوان (أقوال المؤرخين في نسب عنزة). أمَّا الأول فجاء في 26 صفحة (أي: 15% من البحث) وما هو إلا سَرْد للأشعار التي ورد فيها نسبة عنزة الحالية إلى وائل، وليست هذه النقطة من مشكلات البحث أصلاً! ولا يُعارض فيها معارضٌ! فهي من تحصيل الحاصل!!
وكلُّ هذه الأشعار لا تتقدّم بالبحث خطوةً واحدةً نحو (الحقيقة العلمية) التي قال الكاتب في مقدمته: (إنها أسئلة لا تجد جواباً وإنّ كتابه سيُوجد أجوبتها!!)؛ لأنّ هذه الأشعار كلّها ـ عدا بيتاً واحداً ـ لا تكشف حقيقة وائل هذا: أهو الشهير الذي يبحث عنه الكاتب أم آخر غيره أم هي عزوة لا نسب؟!
أمَّا المبحث الآخر فجاء في 39 صفحة (أي: 23% من البحث) وما هو إلا نَقْل مطوّل (خالطه كثيراً نقل أشياء لا تتعلّق بمشكلات البحث الأساسية!)، وليس للكاتب عملٌ في نَقْدِ النُّقول ولا التعليق عليها! وهذا يدلّ على غياب الشخصية العلمية الناقدة للكاتب وعشوائية المنهج. وكان الكاتب قادراً على التخفيف من هذه النقول المركومة بالاقتصار على المهمّ منها، وتَفْريقِها في مباحث الكتاب فيضع كلَّ نصٍّ في الموضع المناسب له في المباحث المتقدّمة، لا أنْ يأتي بفكرته في المباحث المتقدّمة ويأتي في المبحث الأخير بنصوص الدّارسين الموافقة له؛ فهذا تمزيق لأوصال الفكرة والمنهج والبحث!
2 ـ قصور التعامل مع النصوص: نَقْلاً وتوثيقاً وإحالةً.
يُعاب على الكاتب أنَّه يُسْهب في نَقْلِ النصوص فيُثْقل الكتاب بالنُّقول التي لا تَخْدم البحث، كما تراه في ص 22 ـ 36، و 60 ـ 65.
وخلا الكتاب كلُّه من أيّ توثيق للنُّقول، فلا يذكر الكاتب إلا اسم الكتاب ولا يُشير أبداً إلى رقم الجزء والصفحة! ـ إلا في هامش واحد منقول عن غيره ـ وهذا نقص كبير وخلل منهجي فاضح! وزاد الكاتب على هذا فلم يضع قائمةً يُوضح فيها بيانات المصادر والمراجع التي استفاد منها!
وهذا النقص يجعل الكتاب أولى بأنْ يُعدَّ من كتابات الهواة وليس من المؤلَّفات الجادة التي تحترم قواعد البحث العلمي المقرّرة.
3 ـ القصور الواضح في نقد النصوص: سلباً وإيجاباًً.
لا أكاد ألمس أثراً للكاتب في نقد النصوص، فهو يأتي بالنصوص ويُثبتها في كتابه من غير أنْ يُنقّحها أو أنْ يُناقشها مع أنّ كثيراً من هذه النصوص ينطوي على أخطاءٍ واضحةٍ وأحكامٍ غير مستقيمةٍ.
وفي مقابل هذا كان الكاتب يعمد إلى كثير من النصوص فيخلع عليها من تصوّره معانياً فضفاضةً ليست هي المعاني الحقيقة للنصوص.
ولا ريب عندي أنّ جميع الأخطاء العلمية التي وقع فيها الكاتب ـ غير المغالطات المقصودة! ـ مردُّها إلى قصوره في نقد النصوص.
4 ـ ركاكة الأسلوب وشيوع التصحيف.
أمَّا الأخطاء النَّحوية والإملائية فكثيرةٌ جداً!! وعلامات الترقيم لا تكاد تجد فيها واحدةً في مكانٍ صحيحٍ!! وأمَّا الأسلوب فمبتذلٌ ركيكٌ ينحو إلى أسلوب التقارير الصَّحفية، وفيه ضعفٌ ظاهر في الاستخدام الدقيق للدلالات الوضعية للألفاظ؛ كقوله (عند حلول القرن الخامس)! فما المعنى الدقيق لحلوله؟! هل هو السنة الأولى منه أم مطالعه أم ربعه الأول؟؟!! والكتابات التاريخية العلمية يجب أنْ تلتزم بالتحديد الدقيق للألفاظ. ولا يُمكن تفسير هذا التقصير إلا بضعف الملكة عند الكاتب أو تعمُّده الإبهام للتغطية على الثغرات المكشوفة في (نظريته)!!
ـ الخلل في بناء (النظرية):
للكاتب نظرية بسطها في كتابه حول دخول قبائل ربيعة كلّها في حلف اللهازم ثم تحوّل هذا الحلف إلى اسم "عنزة الوائلية" وهجرتها من العراق إلى خيبر في القرن الخامس الهجري.
فإذا أرجأنا بيان الأخطاء العلمية التي تُبطِل هذه (النظرية) من أسِّها والتناقضات التي يدفع بعضها بعضاً مع تحدّر سطور الكتاب... فإنّ الكاتب قد أغفل ـ أو تعمّد إغفال! ـ جوانب تاريخية حول القبائل الربعية لا يُمكن أنْ تكون (نظريته) متماسكةً ـ فضلاً عن أنْ تكون صحيحةً!! ـ إلا بها:
1 ـ فهو يُغفِل إغفالاً تاماً ذِكْر تاريخ (عبد القيس) في بلادها البحرين! فهذه القبيلة الربعية الضخمة التي تجاوزت القرن الثامن وهي محتفظة بكيانها القبلي وعصبيتها لا نجِد لها أثراً في (نظرية) الكاتب عن تحوّل ربيعة في القرن الخامس!! ومع أنّه ـ بإشارةٍ خاطفة مُضلِّلة ـ قد أدخل عبد القيس في حلف اللهازم إلا أنّه اكتفى بهذا ولم يتحدّث بكلمة واحدة إطلاقاً عن هذا الوجود الضخم لربيعة خارج حدود (نظريته)!!
2 ـ وكذلك فهو يُغفل الوجود الرَّبَعي في بلاد اليمامة؛ فهو منذ العصر الأموي يُهمل هذه البلاد إهمالاً كأنّها خلت من ربيعة فليس لها فيها موطئ قدم!!
3 ـ وأعرض عن ذِكْرِ ربيعة في الحجاز قبل القرن الخامس؛ فلم يذكره لا مُثْبِتاً ولا نافياً! مع أنّه نقل في ص 83 نصاً أشار إلى هذا الوجود! لكنّ الكاتب آثر السكوت والسلامة!!
فإنْ تركنا هذا كلّه وأخذنا (النظرية) لتحليلها نَجِد أنَّها ابتدأت بالحديث عن عنزة بن أسد ثم دخولها في حلف اللهازم ثم تضخّم هذا الحلف ليبتلع كل القبائل الربعية ثم دخول هذه القبائل كلّها تحت اسم عنزة. لكنّ القارئ يُفاجأ في آخر الأمر بأنّ عنزة التي خُتِمت بها (النظرية) اسمٌ مخترعٌ فقط؛ فالقبيلة التي كان اسمها عنزة بن أسد قد اندثرت كما قال الكاتب منذ القرن الخامس!! فما دام الأمر كذلك... فما التَّعليل لانطلاق (نظرية) الكاتب من عنزة بن أسد؟! لِمَ لَمْ يبدأ الكاتب ببني ضبيعة أو بالنمر بن قاسط ـ مثلاً ـ؟! لأنَّ النتيجة التي سينتهي إليها ستكون واحدة مهما اختلفت القبيلة الربعية التي انطلق منها!!
وأنا لن أناقش هنا (نظرية) الكاتب فلذلك موضعه اللاحق، وإنّما أردتُ الإشارة إلى أنّ البناء العلمي (للنظرية) كان متصدّعاً منذ البداية! وأنّ البناء النظري لمقدماتها ونتائجها كان غير منطقي! و:
إذا أفْسَدْتَ أوَّلَ كلِّ أمْرٍ = أَبَتْ أعجازُه إلا التواءَ!!
ـ وسيكون نشر الموضوع منجَّماً على مشاركات تُنشر تباعاً إنْ يسَّر الله ـ