مناظرة.بين عليان والمأمون.
((العالم الصادق:قويّ الحجة، حاضر البديهة، يفحم خصمه بما معه من الحق، ولا يبغي غير وجه الله الكريم، نرى ذلك واضحاً في هذا الموقف))
كان((إبراهيم النظام)) جالساً بين يدي ((المأمون))، إذ دخل بعض المتكلمين ممن يقول بالدهر..
فأمَرَ ((المأمون)) مناظرته، فطالت المناظرة، وكَثُر الشغب.
فَذَكَر بعض المتكلمين الحاضرين.. أن بالكوفة مجنوناً اسمه ((عليان))
قد قطع كل خطيب، وأسكت كل متكلم بسرعة جوابه وحِدَّة خاطره..
فأحب ((المأمون)) أن ينظر إليه ويسمع كلامه فكَتَب إلى عامله وأشخصه إليه..
فلمَّا دخل على ((المأمون)) نظر إلى رَجُل أشعث أغبر في زى المساكين.
فائتزاره ((المأمون))، فأمر أن يجلس مجلس العامة، حيث يراه ويسمع كلامه،
وقال لإبراهيم النظام: سائل الرجُل..
فقال له إبراهيم: ما اسمك؟
قال: عليان
فضحك ((المأمون)) من تصغيره لاسمه، وضحك بعض الحاضرين.
وعرف ذلك ((عليان))، فقال: } إِن تَسخَرُ مِنَّا فَإِنَّا نَسخَرُ مِنكُم كَمَا تَسخرُونَ (38) فَسَوفَ تَعلَمُونَ (39)}
قال: فاستحيا منه (( المأمون )) ورَفعَ من موضعه وقال لإبراهيم النظام: سائل الرجل، فإني أراهُ أريباً..
فقال له إبراهيم: يا عليان، أسألك عن مسألة.
قال عليان : سؤال متعلم أو متعمد؟
قال: بل سؤال متعلم.
قال: فأنزل عن موضعك، وجلس، وضَع يمينك علَى شمالك، وجمع بين عقبيك، وأرخ ذقنك علَى صدرك، وسلَّم سلام متعلم علَى مُعَلَّم، وسَل عَمَّا تريد.
ثم سَأَلهُ عن القَدَر؟ فأحسن وأجاد، ثم قال له إبراهيم: يا عليان ..هذا يخالفك.
وأومأ بيده إلى الذي يقول بالدهر لينجُو هو من مناظرته.
فقال له: ما يقول هذا؟
قال: يقول: ليل ونهار، وفَلَك دوَّار، وسماء خاليه بلا جبار.
فقال: يا إبراهيم، هذا كافر، وكلامي معك ومخاطبتي لك لا أعرف هذا.. أخبرني من أَلهم أباك الشهوة؟ فأمَرَ الجوارح بالحركة، حتى أفضَى الفرج إلى الفرج، فصرت نُطفَة في قرارٍ مكِين ،إلى قَدرٍ معلوم، وجعل النُّطفَة عَلَقَة، وجَعَل العَلَقَة مُضغَة، وجعل المُضغَة عظاماً رَقيقاً، ثُمّ كَسَا العِظام لَحماً، ثُمّ أنشَأكَ خَلقاً آخر؟
قال: الله.
قال: فأخبرني من الذي فَتَح صَحن الجبين، وركب العرنين، وخَلَق العينين،فأسكنهما جوهرتين، وزيَّنهما بالحاجبين؟
قال: الله تعالى.
قال:فأخبرني من عدل منكبيك، فشدّهما بعَضَدين، وزينهما باليدين، وركّب الكَفَّين، وجعل الساقين اسطوانتين، وركّب تحتهما القدمين؟
قال: الله تعالى.
قال: فأخبرني من الذي حبسا عن أُمك الحيض في أيام الحمل غذاء لك. وتقوية لجسمك، فلما كَمُلَت صورتك، وانقَضَت أيامك، ولمَّا حان وقت خروجك إلى الدنيا، ناداك من فوق عرشه جَلَّت عظمته (( اخرج وعرف قَدرِِي، فإني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبُدني ))
فخَرَجتَ من ظُلمة الأحشاء إلى دار الدنيا، وأنت ضعيف مَهين، ليس لك رِجلان تسعَى عليهما، ولا يَدَان تتحرك بهما، ولا لسانُ يتكلم، ولا سِنٌّ يقطع ولا ضرس يطحَن، ولا أُذُن تسمع ولا عَقل يفهم.. فأَجرَى لك من ثلاثمائة وستين عِرقاً، عَرقَين دقيقين لبَناً عَذباً صافياً زلالاً.. بارداً في الصيف، حارّاً في الشتاء، جعله لك غذاء، وحَنَّن عليك أبوين شفيقين رفيقين، فَهُما لا يأكلان حتى يُطعماك، ولا يشربان حتى يسقياك، ولا ينامان حتى ينوَّمك، كل ذلك رأفة ممن خَلَقَكَ فَسَوَّاك، فلما ترعرعت ونشأت.. كافأتَهُ بالمعاصي، وجَحَدتَ ربوبيته،..
(فأمسك (( النظام )) والمتكلم، ولم يحريا جوابا)
وكان (( المأمون )) متكئاً، فاستوى جالساً، وقال: يا عليان.. هل من حاجة فأقضيها؟
قال: نعم، أريدُ أن تنسئ في أجَلِي، وتتجاوز عن مساوئي، وتغفر لي خطيئتي..
فبكى المأمون، وقال: يا عليان، ليس هذا إليَّ، أنا لا أقدر أستخلصه لنفسي، فكيف أستخلصه لك؟
قال عليان: يا أمير المؤمنين، إن الله تبارك وتعالَى لم يجعل أحداً فوقك في عصرنا، فيجب عليك ألا يكون أحد أطوع لله منك.
فقال المأمون: يا عليان عِظنا يرحمك الله، فقال: يا أمير المؤمنين، أن الذي أكرمك بما أكرمك به
يجب أن تحب له ما أحب وتبغض له ما أبغض، فوالله لقد أحب داراً أبغضتها، وأبغض داراً أحببتها، كأنما أردتَ خلاف ربك، أو أردتَ سواه فاعلم يا أمير المؤمنين، أن الذي في يديك لو بقيَ على من كان قبلك، إذاً لما صار إليك، وهكذا هو صائر إلى من بعدك.
فاتقِ الله في خلافتك، وأحفظ (( محمداً )) صلى الله عليه وسلم، في أُمته.
فبكَى (( المأمون ))، ثم أَمَر أن يُحشَى فمه درّاً وياقوتاً..
فقال له: أعفني يا أمير المؤمنين.
قال: فأعفاهُ، ثم خرج من عنده.
فقيل له: لِمَ لَم تَقبِل جوائز أمير المؤمنين؟
قال: خشيت أن أُمنع جوائز رب العالمين.
ثم ولَّى وهو يقول:
كم ملوك عن الديار تفانوا
وخَلَت منهم هناك البيوتُ
فَسَلِ الربع والمنازل عنهم
هل تُنبيك عنهم أم سكوتُ
حِبّ مَن شئت فهو بالموت فانٍ
غير أني أحببتُ من لا يموتُ
جمعها وكتبها
أخوكم/احمد بن محمد الحريميس
أبو منصور