ما هو التاريخ سؤال يطرح نفسه .
يقول الاستاذ الدكتور الحسناوي في كتابه القيم دراسات في منهجية الفكر التاريخي إطلالة على دور الوثيقة في كتابة التاريخ .يقول : ان ذلك يدفعنا الى التساؤل : هل التاريخ الذي لا يقام على التوثيق المادي يقع ضمن اختصاص التاريخ، ام ضمن الادب الشعبي؟
لقد اختلف المؤرخون في تحديد المعنى الاصطلاحي للتاريخ،فابن خلدون (ت 808هـ) يرى انه على نوعين : ظاهر وهو عبارة عن اخبار الماضي، أي التدوين التاريخي، وباطن وهو النظر والتدقيق في الوقائع واسبابها، أي ما نسميه اليوم ب"فلسفة التاريخ" بينما عرفه كولنجود بأنه بحث علمي للكشف عن حقيقة احداث الماضي وتقويمها، او انه كما قال لويس جوتشلك "ماضي الانسانية" .ومهما كان نوع التعريف وشكله، فإن ذلك لا يشكل عائقاً امام البحث التاريخي الذي لا يلتفت كثيراً الى المسميات والمفاهيم، بقدر ما يهتم بالوقائع توثيقاً وتحليلاً، وايجاد علاقة مباشرة ومتينة بين تدوين التاريخ وتفسيرة، فالاحداث التي لا تستند الى ادلة وثائقية او مصادر مادية مهما كان شكلها ونوعها، سواء نقشاً ام حجر، صورة ام خريطة، رسالة ام وثيقة. هي احداث لا ترتقي الى التاريخ بقدر ما ترتقي الى الادب او القصص الخيالية .
ومن هنا جاءت هذه الدراسة لتركز على ابراز صورة العلاقة الوطيدة بين التوثيق المادي، وبين تدوين التاريخ وتفسيرة، وتحديد الملامح الرئيسية لهذه العلاقة من خلال رسم دور الوثيقة في التركيب البنيوي للتاريخ، تدويناً وتوثيقاً وفلسفة .
وخلاصة القول، ان التركيب البنيوي للتاريخ اليوم يعتمد اساساً على الوثيقة بصفتها المادة الاساسية له، والمصدر الرئيس لمعلوماته . الا اننا يجب الا ننظر اليها نظرة مقدسة، كما نظر لها مؤرخو المدرسة اللألمانية سابقاً، بل يجب ان نعتمد منهجاً جديداً لها، فالوثيقة ليست بريئة، فهي اولاً وآخراً نتاج واع او لا واع لمجتمعات الماضي التي ترغب في الوقت نفسه في فرض صورة هذا الماضي والتعبير عنه، اكثر من رغبتها في قول الحقيقة. ومن هنا يجب تفكيك بنية الوثيقة للتعرف على ظروف انتاجها، ومن هو الذي قدمها لنا بصفتها شهادة على حدث؟ ان البنى الجديدة للتاريخ يجب ان تأخذ بعين الاعتبار كل الوثائق التي تركتها المجتمعات، ومن ذلك ادماج النص الادبي والاثر الفني في تفسير التاريخ من دون ان نتغافل عن ذلك .
لقد ذهب فولتير الى الاعتقاد ان التاريخ هو التاريخ الاقتصادي والديموغرافي وتاريخ التقنيات وتاريخ العادات ،وليس فقط التاريخ السياسي والدبلوماسي والعسكري، وهو ايضاً تاريخ الناس، كل الناس، وليس فقط تاريخ الملوك والعظماء.
انه تاريخ البنى، وليس تاريخ الثبات . انه تاريخ تفسيري وليس تاريخاً سردياً وصفياً ودوغمائياً، انه تاريخ تحليلي موثق، وليس كالتاريخ الذي كان يقدمه الرواة (الحكاواتية) في المقاهي الشعبية، مثل سيرة بني هلال والزير سالم وعنترة وعبلة. ان التركيب البنيوي للتاريخ يجب ان ينصب على هذه المباديء اعتماداً على ما يتوفر من وثائق . نرجو ان نكون في هذا الكتاب قد وفقنا في تقديم ما ينفع الناس، ولو بقدر متواضع، ومن الله التوفيق .
اقول انا كلمات تكتب بالذهب فواجب كل مؤرخ ان يضعها نصاب عينيه اذا هو اراد ان يكتب بعلم التاريخ والا اركب نفسه الصعب وحملها ما لا تحتمل وتطيق .
|