كتاب الأربعين في مناقب أمهات المؤمنين رحمة الله عليهن أجمعين
بِسْمِ اللهِ الرحمٰن الرَّحِيمِ
المقدمة
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمّد وعلى ءاله وصحبه وسلم، أما بعد:
فهذا مختصر في مناقب أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم وهن أمهات المؤمنين رضي الله عنهن ألّفه الشيخ فخر الدين بن عساكر الأشعري رحمه الله تعالى لمّا افتتح الملك الناصر مدينة حلب.
ذكر فيه ما خص به صلى الله عليه وسلم في أمر النكاح وما أبيح له منهن ومقدار عددهن ومن دخل بهن ومن طلَّق منهن ومن ماتت عنده ومن مات عنهن، ثم أفرد لكل واحدة منهن ترجمة مختصرة على ترتيب تزويجه صلى الله عليه وسلم بهن ضمّنها بعض ما جاء في فضل كل واحدة، فأحببنا أن ننشر هذا الكتاب راجين من الله الثواب وعليه نتوكل وبه نستعين ونسأله خير العلم والعمل واليقين إنه وليّ المتقين.
الحِكَم والأسباب لتعدد زوجات النبيّ صلى الله عليه وسلم
ليُعلم أن نبيَّنا صلى الله عليه وسلم لم يكن متعلق القلب بالنساء، والدليل على ذلك أنه كان معروفًا بين أهل مكة بمحمدٍ الأمين إلى أن بلغ من العمر أربعين سنةً وقد كان أوتي من الجمال ما لم يساوه فيه أحد، فلو كان كما يفتري عليه الملحدون ولوعًا بالنساء لظهرت منه رذيلة بل رذائل كثيرة ولكان أهل بلده طعنوا فيه بذلك حين أعلن دعوته ودعاهم إلى عبادة الله وحده وترك ما كانوا يعبدونه من الأوثان. وكانوا اكتفوا بالتشنيع عليه بذلك عن غيره من أساليب الإيذاء له ولمن ءامن به. ولم يتزوج إلا بعد أن صار عمره خمسة وعشرين عامًا، ثم ماتت زوجته حين بلغ من العمر خمسين سنةً ثم تزوج امرأةً أخرى ثم عدّد لا لإشباع الشهوة بل لِحِكَمٍ تَعودُ إلى مصالح دعوته، فخصه الله تعالى دون أمته بأن أباح له أن يجمع بين أكثر من أربع من الزوجات.
ومن جملة تلك الحكم أن تنتشر شريعته بطريق النساء إلى النساء، قلنا لو كان كما يقولون كان عدَّد الزواج قبل أن يبلغ عمره خمسين سنة كما هو شأن المنهمكين في شهوة النساء، ومن الدليل على أنه لم يكن متعلق القلب بالنساء ما رواه مسلم(1) عن عائشة أنها قالت: "ما كانت تمر ليلتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خرج إلى البقيع(2) يدعو لأهل الجبانة" مع ما اجتمع في عائشة من حداثة السن والجمال.
_______________________
(1) انظر "صحيح مسلم": كتاب الجنائز: باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها.
(2) أي جبانة المدينة.
مسألة في تفنيد ما افتُريَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة زينب(1) بنت جحش
طعن بعض الكفار فيه صلى الله عليه وسلم بقوله إن محمدًا احتال على زيد بن حارثة لما عَلِقَت نفسه بزوجته زينب بنت جحش حتى توصل لزواجها.
الجواب: أن زينب لم تكن معرفته بها جديدة لأنها بنت عمته أمها أُمَيْمَةُ بنت عبد المطلب وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يزوجها زيد بن حارثة مولاه فكرهت ذلك ثم رضيت بما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجها إياه، ثم أعلم الله عزَّ وجلَّ نبيه صلى الله عليه وسلم أنها تكون من أزواجه فكان يستحي أن يأمره بطلاقها وكان لا يزال يكون بين زيدٍ وزينبَ ما يكون من الناس فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمسك عليه زوجه وأن يتقي الله وكان يخشى الناس أن يعيبوا عليه ويقولوا تزوج امرأة ابنه وكان قد تبنى زيدًا، فكان مما قاله زيد: يا رسول الله إن زينب اشتد عليّ لسانها وأنا أريد أن أطلقها، فقال له: اتق الله وأمسك عليك زوجك.
ومعنى قوله تعالى: ﴿وَتُخْفِى فِى نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ﴾ (سورة الأحزاب/ ءاية 37) أنه كان يخفي إخبارَ الله الذي أخبره أنها ستصير زوجته بوحي غير قرءان(2)، والذي كان يحمله على إخفاء ذلك خشية قول الناس تزوج امرأة ابنه، وأراد الله إبطال ما كان عليه الناس قبل البعثة من أحكام التبنّي بأمرٍ لا أَبْلَغ في الأبطال منه وهو تزوج امرأة الذي يدعى ابنًا له.
ثم لما أنزل الله في ذلك قوله: ﴿فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنٰكَها﴾ (سورة الأحزاب/ءاية 37) أظهر ذلك فتلاه على الناس قرءانًا فبهذا ظهر ووضح أنه صلى الله عليه وسلم لو كان متعلق القلب بالنساء كان غلب عليه ذلك التعلق فعدد الزواج بالكثير من النساء قبل بلوغ خمسين عامًا من عمره.
__________________________________________________ ________________
(1)وهي التي يقول الله فيها:{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِى~ أَنْعَمَ الله ُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِى فِى نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشٰهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَٰكَهَا}(سورة الأحزاب/ءاية 37 ) فزوَّجها الله تعالى بنبيه بنص كتابه بلا ولي ولا شاهدين.
(2)وذلك أنه كان يبلّغ ما أنزل من القرءان فوراً.
كتب الأربعينات في الحديث وغيره
كتب الأربعين يراد بها المؤلفات التي يصنّفها العلماء في موضوع ما يجمعون فيها أربعين حديثًا.
قال الحافظ النووي في مقدمة كتابه "الأربعون النووية": "فقد رَوَينا عَنْ عَليِّ بن أبي طالب وعبدِ الله بنِ مسعودٍ ومُعاذِ بنِ جَبَلٍ وأبي الدَّرْداءِ وابنِ عُمَرَ وابنِ عباسٍ وأنَسِ بنِ مالِكٍ وأبي هُرَيرة وأبي سعيدٍ الخُدْرِيّ رضي الله عنهم من طُرُقٍ كثيراتٍ برواياتٍ متنوَّعاتٍ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: "مَنْ حَفِظَ على أُمَّتي أربعينَ حديثًا (1) من أمْر دينها بَعَثَهُ الله يومَ القيامةِ في زُمْرةِ الفُقهاءِ والعُلماء"، وفي روايةٍ: "بَعَثه الله فَقِيهًا عالمًا"، وفي روايةِ أبي الدَّرْداء: "وكُنتُ له يومَ القيامةِ شافعًا وشهيدًا"، وفي رواية ابن مَسْعودٍ: "قِيلَ له ادخُلْ مِن أيِّ أبوابِ الجنةِ شِئتَ"، وفي رواية ابن عُمَر: "كُتِبَ في زُمرةِ العلماء وحُشرَ في زُمْرةِ الشُّهداء"، واتَّفَق الحُفَّاظُ على أنَّه حديثٌ ضعيفٌ وإن كَثُرَتْ طُرُقُه.
وقد صَنَّفَ العُلماءُ رضي الله عنهُم في هذا البابِ ما لا يُحصَى من المصنَّفات، فأوَّل مَن علِمتُهُ صَنَّف فيه عبدُ الله بنُ المبارَكِ، ثم محمدُ
__________________________________
(1) "من حفظ على أمتي أربعين حديثاً" معنى الحفظ هنا: أن ينقلها إلى المسلمين وإن لم يحفظها ولم يعرف معناها.هذا حقيقة معناه، وبه يحصل انتفاع المسلمين لا يحفظ ما ينقله إليهم.
بنُ أسْلَمَ الطُّوسي العالِمُ الرَّبانيُّ (1)، ثم الحَسنُ بنُ سفيانَ النَّسَوِيّ، وأبو بكرٍ الآجُرِّيُّ، وأبو بكرٍ محمدُ بنُ إبراهيمَ الأصفهانيُّ، والدارقُطنيُّ، والحاكِمُ، وأبو نُعَيم، وأبو عبد الرحمٰن السُّلَمِيُّ، وأبو سعدٍ المالينيُّ وأبو عُثمانَ الصابونيُّ، ومحمد بن عبد الله الأنصاريُّ، وأبو بكرٍ البَيْهقيُّ، وخلائقُ لا يُحصَوْنَ من المتقدّمينَ والمتأخرينَ.
وقد استَخَرتُ الله تَعالى في جَمعِ أربعينَ حديثًا اقتِدَاءً بهؤلاءِ الأئمةِ الأعلام، وحُفَّاظ الإسلامِ، وقد اتَفَقَ العلماءُ على جَوازِ العَمَلِ بالحديث الضعيفِ في فضائلِ الأعمالِ، ومع هذا فليس اعتمادي على هذا الحديث بلْ على قوله صَلَى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحةِ: "ليُبَلِّغ الشاهِدُ منكمُ الغائِبَ" وقولِهِ صَلَى الله عليه وسلم: "نَضَّرَ (2) الله امْرأً (3) سَمِعَ مَقالتي فَوَعاهَا فأدَّاها كما سَمِعَها".
ثمَّ منَ العُلماءِ مَنْ جَمَع الأربعين في أصول الدّين وبعضُهم في الفُروعِ وبعضُهم في الجهاد وبعضُهم في الزُّهْد وبعضُهم في الآدابِ وبعضُهم في الخُطَبِ، وكُلُّها مقاصِدُ صالِحةٌ رضي الله عن قاصِدِيها" ا.هـ.
__________________________________
(1) نسبة إلى الرب زيد فيه الألف والنون على غير قياس كما تقول العرب لِحيانيٌّ لمن لحيته طويلة ومعنى العالم الرباني العالم العامل المعلم.
(2) أي حسّن الله وجهه.
(3) "نضر الله امرأ" روي بتشديد الضاد وتخفبفها والتشديد أكثر ومعناه: حسّنه وجمّله.
وقال حاجي خليفة في كتابه "كشف الظنون" (1): "وقد صنف العلماء في هذا الباب ما لا يحصى من المصنفات واختلفت مقاصدهم في تأليفها وجمعها وترتيبها فمنهم من اعتمد على ذكر أحاديث التوحيد وإثبات الصفات ومنهم من قصد ذكر أحاديث الأحكام ومنهم من اقتصر على ما يتعلق بالعبادات ومنهم من اختار حديث المواعظ والرقائق ومنهم من قصد إخراج ما صح سنده وسلم من الطعن ومنهم من قصد ما علا إسناده ومنهم من أحب تخريج ما طال متنه وظهر لسامعه حين يسمعه حسنه إلى غير ذلك وسمى كل واحد منهم كتابه بكتاب الأربعين" ا.هـ.
ثم الشيخ فخر الدين بن عساكر رحمه الله تعالى أراد أن يسلك طريقة هؤلاء العلماء الذين ألَّفوا في الأربعينات فكان تصنيفه هذا الذي سمّاه "كتاب الأربعين في أمهات المؤمنين رضي الله عنهن أجمعين" حيث قال في مقدمته: "فإني لما رأيت جماعة من الأئمة الأجلاء والسادة العلماء رحمهم الله صنفوا كثيرًا من الأربعينات في فنون حسان ومعان مختلفة طمعًا في الثواب الموعود على ذلك كما شهدت به الأحاديث... فأحببت أن أكون من جملتهم وأدخل في زمرتهم ابتغاءً للثواب الجزيل والأجر الجميل" ا.هـ.
__________________________________
(1)كشف الظنون (1/52).
ترجمة المؤلف (1)
اسمه ونسبه ولقبه وكنيته وشهرته:
هو الشيخ أبو منصور عبد الرحمٰن بن محمد بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين الدمشقي الشافعي الأشعري الملقب بفخر الدين والمعروف بابن عساكر.
قال أبو شامة: ليس في أجداده من اسمه عساكر، وإنما هي تسمية اشتهرت عليهم في بيتهم، ولعله من قبل أمهات بعضهم.
وهو ابن أخي أبي القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر محدث الشام وحافظها وصاحب "تاريخ دمشق".
مولده:
ولد في رجب سنة خمسين وخمس مائة كما كتب بخطه.
زواجه وأولاده:
زوّجه شيخه الشيخ قطب الدين أبو المعالي مسعود النيسابوري ابنته وجاءه ولد منها سمّاه مسعودًا ومات شابًا.
__________________________________
(1) من مصادر نرجمته: طبقات الشافعية الكبرى (8/177-186) لتاج السبكي، وفيات الأعيان (3/135) لابن خلكان، التكملة لوفيات النقلة (3/102-103) للمنذري، طبقات الشافعية (2/54-55) لابن قاضي شبهة، سير أعلام النبلاء (22/187-190) للذهبي.
هيئته وصفاته الخُلُقية:
قال الذهبي في "السير": "وكان فخر الدين لا يمل الشخص من النظر إليه لحسن سَمته ونور وجهه ولطفه واقتصاده في ملبسه".
وقال أبو المظفر الجوزي في "مرءاة الزمان": "كان زاهدًا عابدًا ورعًا منقطعًا إلى العلم والعبادة حسن الأخلاق قليل الرغبة في الدنيا".
نشأته في طلب العلم:
اهتم الشيخ فخر الدين رحمه الله منذ صغره بالعلم، فاشتغل بالفقه على شيخه قطب الدين مسعود النيسابوري وصحبه زمانًا وانتفع بصحبته وزوَّجه ابنته، وكان يحضر تحت قبة النسر بالجامع الأموي بدمشق لسماع الحديث.
ثناء العلماء عليه:
قال ابن خلكان: "كان إمام وقته في علمه ودينه".
وقال الحافظ المنذري: "دخلت دمشق وهو بها ولم يتفق لي السماع منه ولنا منه إجازة كتب بها إلينا من دمشق غير مرة، وكان مشهورًا بالصلاح والعلم، وبيته مشهور بالحفظ والفقه والمعارف".
وقال ابن قاضي شهبة: "هو أحد الأئمة المبرّزين بل واحدهم فضلاً وكبيرهم قدرًا شيخ الشافعية في وقته".
وقال تاج الدين السبكي: "شيخ الشافعية بالشام وءاخر من جمع له بين العلم والعمل"، وقال أيضًا: "اتفق أهل عصره على تعظيمه في العقل والدين".
شيوخه