مؤرخ قبائل السلقا
تاريخ التسجيل: Apr 2010
المشاركات: 1,151
|
الجزء الثاني
[ ليشمان والمهمات الخاصة ]
كانت الملفات السرية في سيملا قد جمعت بواسطة الرحالة والصيادين والجنود والتجار والجواسيس بالإضافة الى موروث شركة الهند الشرقية التي هيمنت بجيشها الخاص على قسم كبير من اَسيا, فهذا الركام من الوثائق لايمكن الإحاطة به بسهولة وبالإضافة الى تعلم استخدام التلغراف كوسيلة لنقل البرقيات من مكان لاَخر, والتميز بأشياء محددة مثل معرفة جغرافية المنطقة العربية ونظام وحدات الجيش العثماني واتقان وسائل الإعلام والإشاعات, الحرب النفسية! واستطلاع أماكن إنتشار القبائل العربية في البادية, وتحديد المواقع التي ينصب فيها شيوخ القبائل خيامهم ورصد التحركات الأجنبية في المنطقة, وأن يميز بين الصديق والعدو وبين العربي واليهودي واليوناني والاَشوري والأرميني والتركي والكلداني, لم تكن المهمات سهلة لأن المخابرات البريطانية كانت تواجه المخابرات الألمانية في المنطقة التي كانت مدربة جيداَ, خصوصاَ وان ملك المانيا كان يهتم بكتائب المخابرات ويدرب عناصرها في مدارس محترفة ذات مهنية عالية كالمكتب الشرقي لوزارة الخارجية في برلين, حتى أصبح رجال المخابرات الألمان يتمتعون بسمعة أكاديمية عالية ولعل من أشهرهم الألماني اليهودي البارون(14) فون أوبنهايم (15) ولويس موزيل التشكوسلوفاكي(16) البوهيمي النمساوي عندما كانت بلاده جزءاَ من النمسا, فالأول كان عالماَ بالاَثار ويمتهن الجاسوسية في القاهرة حتى مسقط ! والثاني كان علماَ أكاديمياَ وخبيراَ في المخابرات الألمانية! وهو الملقب بموسى الرويلي عند بدو عنزة! والرحالة المعروف في البوادي العربية كانت بريطانيا ترسل الجواسيس لجمع المعلومات مثل مارك سايكس الذي ارتحل مع والده في سوريا والأناضول وكردستان عام 1880م .
وتبعته(17) جيرترد بل, وأبري هربرت الملحق الفخري الشاب في سفارة بريطانيا في استانبول, كان الرحالة الجواسيس يرسلون مايرونه ويستكشفونه الى الملحقين العسكريين والسكرتارية في سفارات بريطانيا في القاهرة واستانبول ومن هؤلاء 1- الكولونيل ماسي في الأناضول وباك ومتيلاند ونيوكوم في سورية فكل هؤلاء كانوا يعملون لصالح الكونت غليشن من المكتب الثاني العسكري 2- لي ستارك مدير الإستخبارات البريطانية في القاهرة ومونسيل وخلفه سوريتز في استانبول كانوا يعملون تحت غطاء صندوق اكتشاف فلسطين ومسح مصر وتحت ذرائع أخرى لامجال لذكرها, كل هذا الحشد من ضباط الإستخبارات والرحالة المخبرين وكتاب القنصليات, لأن عام 1907م كان عام الإعداد للخطط الحربية, فهناك صراعات ونزاعات حقيقية كانت تدور في سيناء وشمال افريقيا وفي البلقان وبلاد الفرس, وهناك انتفاضة يُخطط لها في الجزيرة العربية ومنطقة الخليج, كما أن عبدالعزيز ابن سعود استعاد الرياض عاصمة اَبائه وأجداده وكان في صراع مع اَل رشيد من شمر في حائل, فبعد هذا التدريب المطول والفترة المرحلية والمعلومات والخبرات التي اكتسبها ليشمان, تحول هذا الرجل الى ضابط متخصص جاهز لتنفيذ المهمات الخاصة الخطيرة وكل مايطلب منه, فسنتان من التدريب المكثف فترة طويلة غير أن المغامرة الكبرى كانت تحتاج الى لخطة محكمة وتدريب جيد والإنكليز من طبعهم طول النفس والتخطيط الطويل الامد, وفيما يلي تلخيص لخطوات هذه الرحلة الكبرى الخطيرة.
[ من كراتشي الى بغداد ]
في الثالث عشر من تشرين الثاني عام 1909م استقل ليشمان الباخرة كولا في كراتشي وابحر باتجاه الخليج العربي, وفي الطريق التقى في مسقط بالملازم تي سي فاول, الخبير بالشئون العربية وبعد عواصف ومتاعب وصل ليشمان في السادس عشر من تشرين ثاني الى بوشهر, وبعد يومين وصل الى المحمرة فاستقبله المقيم البريطاني هناك أرنولد ويلسون استقبالاَ حاراَ فهذا الرجل كان من رفاقه المقربين عندما كانا يخدمان في الهند, فعَرفه ويلسون عل شخصية بريطانية كانت في غاية الخبرة والأهمية هو إيلي بانسترسون, مدير بنك فرع شيراز الفارسي والذي استقال مؤخراَ ليجوب منطقة كردستان, فاعجب ليشمات بالرجلين معاَ وقال: سون عظيم الأهمية وويلسون يفوقه في العظمة عندما تقاس عظمة الرجال الخطيرة التي يقومون بها! وهكذا جمعت المصادفة ثلاثة رجال خدموا المخابرات البريطانية بصمت ومن دون ضجة اعلامية كالهالة التي أحاطت بلورنس في وسائل الإعلام, ذهب ليشمان مع ويلسون ليقابل الشيخ(18) خزعل أمير المحمرة فقد كان خزعل يحكم إمارة عربية على ضفاف شط العرب بين بلاد الفرس وديار العرب, فهذه البلاد كانت عريقة بالماسونية وأميرها خزعل كان الأستاذ الأعظم لكل المحافل الماسونية في شبه الجزيرة العربية؟ سُر ليشمان باللقاء لأنه هو نفسه من أنصار الماسونية, وقد دُهش عندما وجد أن خزعل يهتم(18) بمعرفة الأسرار الدقيقة للقادة السياسيين في تركيا وبلاد الفرس, وخصوصاَ التجار وضباط الجيش الذين كانوا ساخطين على الدولة العثمانية فهؤلاء كانوا يتلقون العون والمساعدة من المحافل الماسونية في طهران واستانبول وسالونيك, كما أن خزعل صديقاَ للشيخ(19) مبارك الصباح وكلاهما كان على صلة بالملك عبدالعزيز اَل سعود الذي استعاد الرياض في أواسط نجد, ولهذا عقد ليشمان العزم للوصول الى الرياض مهما كان الثمن, ولكنه توجه الى البصرة أرض الأهوار والمستنقعات وبساتين النخيل والتي يعتبرها بمثابة مرسيليا الشرق حيث يتوافر فيها الخمر والنساء والمراقص والغناء ويختلط فيها الناس وتحاك فيها المؤامرات .
في البصرة كان ليشمان يجتمع سراَ بضباط المخابرات من جميع بلدان العالم, كما استضافه هناك تاجر فرنسي برفقة ثلاث نساء مشبوهات فرقص معهم حتى ساعة متأخرة من الليل, كما استضافه ممثل شركة ستريك, فعن طريق التجار عقد الصداقات مع بعض الألمان كما وأقبل على تعلم اللغة العربية تحت اشراف أحد البغداديين فبقى في البصرة حتى السادس والعشرين من تشرين الثاني عام 1909م, واصل ليشمان سفره الى بغداد على متن زورق تجاري أبحر في نهر دجلة فوصلها في اليوم الثاني من شهر كانون الأول فحل ضيفاَ عند المندوب السامي البريطاني(20) جون لوريمير صاحب الهمة العالمية والذكاء المتميز, فشعر في ضيافته بقدر كبير من السعادة , وفي بغداد التقى بـ وليم ويلكوكس مهندس الري الكبير, الذي استدعته الحكومة العثمانية لإنجاز مشروع ري كبير في العراق, كان الرجلان في قلق من نشاط الألمان في العراق ولهذا أمر بأن تبقى العيون مفتوحة لرصد مايحدث بدقة متناهية, كان ليشمان في بغداد صديقاَ لعائلة عزو المسيحية فتعلم على يد (21) عزيز عزو اللغة العربية كما زوده الأخير بخادم فارسي لايعرف التحدث باللغة العربية, ترك ليشمان الجالية البريطانية المتحضرة وعيشها الهادىء المريح في بغداد, والتحق بمجوعة من الزوار الشيعة في رحالة الى كربلاء على الفرات وعندما وصل حلَ ضيفاَ عند أمير هندي من أصل فارسي هو النواب ماجد خان من عائلة أُود, ومن هناك أخذ يستعد للقيام بأولى جولاته في قلب الجزيرة العربية, في كربلاء استقبله القنصل البريطاني هناك محمد حسن وقدمه الى المتصرف العثماني جلال بك مدعياَ بانه من الأثرياء الأنجليز الذين يحبون الترحال والسياحة! فاخذ طريقة لورنس يقيم الولائم ويحيط نفسه بهالة من التقدير والإحترام والأهمية, وهذه واحدة من أدوات التجسس عند البريطانيين فعن طريق المال والخمر والنساء ينفذون الى الجبهات المنيعة, ومن كربلاء ذهب في رحلة صيد فقطع مسافة عشرة أميال خارج المدينة فى الطريق المؤدية الى النجف.
فشاهد مضارب(22) بني حسن, وعندما وصل الى النجف تعرف على بعض الملالي وعلى ثري يهودي بغدادي هو مناحيم دانيال! كان معروفاَ لدى كل الموظفين البريطانيين أيام الإحتلال, وبعد عدة رحلات صيد في المنطقة عاد الى بغداد وفي جعبته الكثير من المعلومات التي يحتاجها للشروع في انطلاقاته القادمة, في كربلاء أرسل ليشمان رسولاَ الى مضارب(23) البوعقاب من عبدة من شمر في ضواحي(24) الشويب, ومعة عباءة وهدية للشيخ عبدالله وقد طلب مقابلة الشيخ وزيارته في خيمته بين القبيلة, وبقى ينتظر الرد في بغداد, وفي هذا الوقت كان يشارك الجالية الأوروبية الإحتفلات بعيد الميلاد, وقدوم السنة الميلادية الجديدة 1910م, ويتدرب على إرتداء اللباس العربي وأساليب التنكر بمساعدة بمساعدة صديقه داوود بك الداغستاني ابن حاكم الموصل العثماني , كان يريد الإتصال ببعض فروع قبيلة شمر, لإنه كان يريد الوصول الى منطقة حائل ليتعرف على الأمير الشاب (25) سعود بن عبدالعزيز اَل رشيد وخاله (26) زامل بن سبهان, ورجال شمر أفضل من يوصله الى هناك, في الكاظمية في بغداد اختفى لعدة أيام لأنه كان مع الدليل خضر عباس يسرعون ليلاَ في طريقهم الى مضارب البوعقاب من شمر فاستقبله الشيخ عبدالله فعلم أن شمر عبدة كانوا على وشك الرحيل الى حائل يقودهم ماجد بن عجل, كما اتصل بالشيخ ماجد فتعهد الأخير بان يشتري الإبل ويوفر الأدلاء على أن يكون ليشمان ممن يرحل ضمن القبيلة, غير أن ليشمان ورفاقه من بدو شمر كانت تراقبهم السلطات التركية بشدة, التي أخذت ترتاب من تحركات ليشمان فلم تكن القضية قضية سياحة بل هو أمر خطير دُبر بليل في بلاد الرافدين! فالبريطانيون كانوا يودون استمالة القبائل العربية الى صفوفهم عندما تحين الفرصة لتحطيم الدولة العثمانية, ولهذا نصحه ماجد بن عجل بالرجوع الى بغداد وأمره أن يبقى هادئاَ حتى حين وقت الرحيل, وعليه أن ينتظر التعليمات والفرصة المناسبة .
التعديل الأخير تم بواسطة ابو مشاري الرفدي ; 04-05-2011 الساعة 05:04 AM
|