الجزء الثانى
أبو حنيفة وجاره الإسكافي
وفي تاريخ بغداد ووفيات الأعيان: أن أبا حنيفة رضي الله عنه، كان له جار إسكافي يعمل نهاره، فإذا رجع إلى منزله ليلاً تعشى ثم شرب، فإذا دب الشراب فيه غنى وقال:
أضاعوني، وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهةٍ وسداد ثغر
ولا يزال يشرب ويردد هذا البيت حتى يأخذه النوم، وأبو حنيفة يسمع صوته كل ليلة. وكان أبو حنيفة يصلي الليل كله، ففقد أبو حنيفة صوته فسأله عنه فقيل: أخذه العسس منذ ليالٍ، فصلى أبو حنيفة الفجر من غده، ثم ركب بغلته وأتى إلى دار الأمير، فاستأذن عليه، فقال: ائذنوا له، وأقبلوا به راكباً ولا تدعوه ينزل حتى يطأ البساط. ففعل به ذلك، فوسع له الأمير من مجلسه وقال له: ما حاجتك؟ قال: أشفع في جاري.فقال الأمير: أطلقوه وكل من أخذ في تلك الليلة. فخلوهم أيضاً وذهبوا وركب أبو حنيفة بغلته وخرج والإسكافي يمشي وراءه فقال له أبو حنيفة: يا فتى! هل أضعناك؟ فقال: بل حفظت ورعيت فجزاك الله خيراً عن حرمة الجوار. ثم تاب الرجل ولم يعد إلى ما كان يفعل.وقال الشافعي: قلت لمالك، هل رأيت أبا حنيفة؟ قال: نعم، رأيت رجلاً لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهباً لقام بحجته.
يعفو عن الرأس والذنب
وأتي المتوكل بمحمد بن النصيب ووزيره ابن الديرواني وكان محمد هذا قد خرج على المتوكل واستوزر ابن الديرواني، فلما مثل بين يدي المتوكل قال له: ما حملك على ما فعلت يا محمد؟ قال: الشقوة وحسن الظن بعفوك يا أمير المؤمنين، وأنشد يقول:
أبى الناس إلا أنك اليوم قاتلي ... إمام الهدى والعفو بالحر أجمل
تضاءل ذبي عند عفوك قلـتى ... فـجد لي بعفو منك فالـعفو أفضل
فقال الملك: خلو سيبله، ثم قدم ابن الديرواني فقال: اضربوا عنقه، فقال: سبحان الله، يا أمير المؤمنين، تعفو عن الرأس وتقطع الذنب؟ فضحك المتوكل وعفا عنه.
إبن اَدم
ووقف رجل على الواثق فقال: يا أمير المؤمنين، صل رحمك وارحم أقاربك وارحم رجلاً من أهلك.
فقال الواثق: من أنت، فإني لا أعرفك قبل اليوم؟قال: ابن جدك آدم.فقال: يا غلام، أعطه درهماً؟ فقال: يا أمير المؤمنين، وما أصنع بالدرهم؟ قال: أرأيت لو قسمت المال بين إخوتك أولاد جدي أكان ينوبك منه حبة.فقال: لله درك ما أذكى فهمك فأمر له بعطاء وانصرف مكرماً.
المأمون وزبيدة أم الأمين
حكي أن المأمون مر يوماً على زبيدة أم الأمين، فرآها تحرك شفتيها بشيء لا يفهمه، فقال لها: يا أماه، أتدعين علي لكوني قتلت ابنك وسلبته ملكه؟ قالت: لا والله يا أمير المؤمنين.قال: فما الذي قلته؟ قالت: يعفيني أمير المؤمنين.فألح عليها وقال: لا بد أن تقوليه؟ قالت له: قلت، قبح الله اللجاجة.قال: وكيف ذلك؟ قالت: لأني لعبت يوماً مع أمير المؤمنين الرشيد بالشطرنج على الحكم والرضا، فغلبني، فأمرني أن أتجرد من أثوابي وأطوف القصر عريانة، فاستعفيته، وبذلت له أموالاً لا تحصى، فلم يعف عني. فتجردت من أثوابي وطفت القصر عريانة، وأنا حاقدة عليه، ثم عاودنا اللعب فغلبته فأمرته أن يذهب إلى المطبخ، فيطأ أقبح جارية وأشوهها خلقة فاستعفاني عن ذلك فلم أعفه، فنزل لي عن خراج مصر والعراق، أبيت وقلت: والله لتطأنها، فألححت عليه وأخذت بيده وجئت به إلى المطبخ، فلم أر جارية أقبح ولا أقذر ولا أشوه خلقة من أمك مراجل، فأمرته أن يطأها فوطئها فعلقت منه بك، فكنت سبباً لقتل ولدي وسلبه ملكه.فولى المأمون وهو يقول: قاتل الله اللجاجة، أي التي لج بها عليها حتى أخبرته بهذا الخبر.
الرشيد وجارية جعفر
ويحكى أن جعفراً البرمكي نادم الرشيد ليلة، فقال: يا جعفر بلغني أنك اشتريت الجارية الفلانية، ولي مدة أطلبها، فإنها بديعة الجمال، ولي شوق زائد إليها فبعنيها.قال: ليس علي فيها بيع.قال: هبنيها.
قال: ولا أهبها.فقال الرشيد: زبيدة طالق مني ثلاثاً إن لم تبعنيها أو تهبنيها.وقال جعفر: زوجتي طالق مني ثلاثاً إن بعتها أو وهبتها.ثم أفاقا من نشوتهما وعلما أنهما وقعا في أمر عظيم وعجزا عن تدبير الحيلة فقال الرشيد: هذه واقعة ليس لها غير أبي يوسف، فاطلبوه، فكان قد انتصف الليل. فلما طلب قام فزعاً وقال: ما طلبت في هذا الوقت إلا لأمر حدث في الإسلام.ثم خرج مسرعاً وركب بغلته وقال لغلامه: اصحب معك المخلاة، واجعل فيها بعض شعير، فإذا دخلنا دار الخلافة ودخلت فضع بين يدي الدابة شيئاً منه تشتغل به إلى حين خروجي، فإنها لم تستوف علفها في هذه الليلة.
فقال: سمعاً وطاعةً.فلما دخل على الرشيد قام له وأجلسه على سريره بجانبه وكان لا يجلس معه غيره، وقال له: ما طلبناك إلا لأمر مهم، وهو كذا وكذا، وقد عجزنا عن تدبير الحيلة.فقال: يا أمير المؤمنين، هذا من أسهل ما يكون. يا جعفر! بع أمير المؤمنين نصفها وهبه نصفها تبرأ من
يمينكما.فسر بذلك أمير المؤمنين وفعلا، فقال الرشيد: أحضر الجارية في هذا الوقت فإني شديد الشوق إليها.فأحضرت، فقال القاضي أبي يوسف: أريد وطأها في هذا الوقت، ولا أطيق الصبر إلى مضي مدة الاستبراء، انظر لي الحيلة في ذلك؟ فقال أبو يوسف: ائتوني بمملوك من مماليك أمير المؤمنين الذين لم يجر عليهم العتق.فأحضر مملوك، فقال أبو يوسف: يا أمير المؤمنين، إئذن لي أن أزوجها منه، ثم يطلقها قبل الدخول فيحل وطؤها في الحال من غير استبراء.فأعجب الرشيد ذلك أكثر من الأول، فقال: أذنت لك.فأوجب القاضي النكاح، ثم قبله المملوك، فقال له القاضي طلقها.
فقال له: هذه صارت لي زوجة وأنا لا أطلقها.فردد عليه القول فأبى وضاق صدر الخليفة لذلك، وقال: قد اشتد الأمر أعظم مما كان.فقال القاضي أبو يوسف: يا أمير المؤمنين رغبه بالمال.
فقال: طلقها ولك مائة دينار.قال: لا أفعل.قال: مائتا دينار.قال: لا أفعل.إلى أن عرضوا عليه ألف دينار وهو يمتنع، وقال القاضي: الطلاق بيدي أم بيد أمير المؤمنين أم بيدك؟ قال: بل بيدك أنت.
قال: والله لا أفعل أبداً.فاشتد غضب أمير المؤمنين، فقال القاضي: يا أمير المؤمنين لا تجزع فإن الأمر هين اعتق الجارية، ثم ملك هذا العبد للجارية؟ قال: أعتقتها وملكته لها.فقال لها القاضي: قولي قبلت؟ فقالت: قبلت.فقال القاضي: حكمت بالتفريق بينكما لأنه دخل في ملكها فانفسخ النكاح.
فقام أمير المؤمنين على قدميه، وقال: مثلك من يكون قاضياً في زماني. وستدعى بأطباق الذهب فأفرغت بين يديه، وقال للقاضي: هل معك شيء توعيه؟ فتذكر مخلاة البغلة. فاستدعى بها، فملئت له ذهباً، فأخذها وانصرف. فلما أصبح قال لخلانه: انظروا إلى من علم العلم فليتعلمه كذلك، فإني أعطيت هذا المال العظيم في مسألتين أو ثلاث.فانظر أيها المتأدب إلى لطف هذه الواقعة فإنها اشتملت على محاسن منها إدلال الوزير على قلب أمير المؤمنين وحلم الخليفة، وزيادة علم القاضي فرحم الله أرواحهم أجمعين.ولكن مسألة الاستبراء لم تتخرج إلا على مذهب أبي حنيفة فخرجها أبو يوسف على قواعد مذهبه لأنه حنفي المذهب. والله أعلم.
إبليس يزور أبا نواس
نظير ذلك مما يستظرف لأبي نواس، ما حكي عنه أنه قال: ضجرت من ملازمة أمير المؤمنين هارون الرشيد حتى إني لم أجد فراغاً إلى نفسي، فتوجه أمير المؤمنين إلى الصرح ليبيت فيه ثم يعود. فوجدت لروحي فرصة فدخلت داري وأغلقت بابي وأحضرت شراباً وطلبت نفسي الحلوة، فعند المساء، وإذا بالباب يطرق، فخرجت وإذا أنا بظبي من أولاد الأتراك ما رأت عيني أحسن منه منظراً، فسلم عيل وقال لي: أتقبل ضيفاً؟ قلت: يا سيدي ومن لي بذلك؟ فدخل بيتي فحار عقلي عند دخوله ثم أخرج من تحت ثيابه سلاحية شراب، ونقلاً وشيئاً من الدجاج ثم شرب وغنى شيئاً لم أسمعه من غيره، وقضيت مرادي منه مراراً إلى أن مضى وقت من الليل، وقد هام عقلي من الشراب ومن حسنه ومن تسليم نفسه إلي بغير تقديم عوض، ثم قال: يا سيدي أريد الانصراف.
فقلت له: يا سيدي متى خرجت أنت خرجت روحي من جسدي وكل شيء أملكه بين يديك وأنا أصير عبدك بعد هذا اليوم ولا أفارقك.قال: أصحيح ما تقول؟ قلت: نعم.قال: ما أنا محتاج إلى مالك، وإن كنت صادقاً فيما ادعيت من محبتك لي قم واحلق لحيتك وشاربك واقعد مثلي أمرد.قال: فحكم علي السكر والعشق فما قدرت أن أخالفه فأجبته إلى ذلك علي أن يبيت عندي، فعمد إلى موس وبل لحيتي وفي الحال أنزلها وبقيت مثله أمرد، ثم صار يضحك علي وقال: يا أبا نواس كيف الشعر الذي ذكرت فيه آدم وإبليس؟ فأنشدته قائلاً:
عجبت من إبليس في كبره ... وخبث ما أضمر في نيته
تـاه علـى آدم فــي سجــدة ... وصـار قـواداً لــــذريـته
ثم ضحك ضحكاً عالياً وصك على ساحل قفاي صكاً مزعجاً، فاغتظت منه ثم قلت له: ويلك أتفعل بي هكذا. ثم أردت التطلع إليه، فما وجدت أحداً يجيبني فقلت: إنه الملعون إبليس.
عروة بن أذنية وهشام بن عبد الملك
قيل: وفد عروة بن أذينة على هشام بن عبد الملك فشكا إله فقره فقال: ألست القائل:
لقد علمت وما الإسراف من خلقي 00أن الذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعـى إليـه فيعيبـني تطلـبه 00وإن قـعدت أتاني ليس يعيبنـي
وخرجت الآن من الحجاز إلى الشام في طلب الرزق؟ فقال: يا أمير المؤمنين، وعظت فأبلغت.وخرج وركب ناقته وكر إلى الحجاز راجعاً، فلما كان الليل نام هشام على فراشه فذكر عروة وقال: رجل من قريش قال حكمة ووفد علي فرددته خائباً. فلما أصبح وجه ليه بألف دينار فقرع عليه الرسول باب داره بالمدينة فأعطاه المال فقال: أبلغ عني أمير المؤمنين السلام، وقل له: كيف رأيت قولي، سعت فأكديت، فرجعت خائباً، فجلست في داري فأتاني رزقي في منزلي.
الحجاج وهند بنت النعمان
وحكي أن هند بنت النعمان كانت أحسن نساء زمانها. فوصف للحجاج حسنها فخطبها وبذل لها مالاً جزيلاً وتزوج بها وشرط لها عليه بعد الصداق مائتي ألف درهم ودخل بها.ثم أنها انحدرت معه إلى بلد أبيها المعرة. وكانت هند فصيحة أديبة، فأقام بها الحجاج بالمعرة مدة طويلة. ثم إن الحجاج رحل بها إلى العراق فأقامت معه ما شاء الله، ثم دخل عليها في بعض الأيام وهي تنظر في المرآة، وتقول:
وما هند إلا مهرةٌ عربيةٌ ... سلالـة أفراس تحللـها بـغل
فإن ولدت فحلاً فلله درها ... وإن ولدت بغلاً فجاء به البغل
فلما سمع الحجاج كلامها انصرف راجعاً ولم يدخل عليها. ولم تكن علمت به، فأراد الحجاج طلاقها، فأنفذ إليها عبد الله بن طاهر وأنفذ لها معه مائتي ألف درهم، وهي التي كانت لها عليه، وقال: يا ابن طاهر، طلقها بكلمتين، ولا تزد عليهما. فدخل عبد الله بن طاهر عليها فقال لها: يقول لك أبو محمد الحجاج كنت فبنت. وهذه المائتا ألف درهم التي كانت لك قبله.فقالت: اعلم يا ابن طاهر، إنا والله كنا فما حمدنا، ثم بنا فما ندمنا وهذه المائتا ألف هي لك ببشارتك بخلاصي من كلب ثقيف.؟ ثم بعد ذلك بلغ أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان خبرها، ووصف له جمالها، فأرسل إليها يخطبها لنفسه، فأرسلت إليه كتاباً تقول فيه بعد الثناء عليه: اعلم يا أمير المؤمنين، أن الكلب ولغ في الإناء. فلما قرأ عبد الملك بن مروان الكتاب ضحك من قولها، وكتب إليها يقول: إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً، إحداهن بالتراب، فغسل الإناء يحل
الاستعمال.فلما قرأ كتاب أمير المؤمنين، لم يمكنها المخالفة فكتبت إليه تقول: بعد الثناء عليه، اعلم يا أمير المؤمنين أني لا أجري العقد إلا بشرط، فإن قلت: ما الشرط؟ أقول: أن يقود الحجاج محملي من المعرة إلى بلدتك التي أنت فيها ويكون ماشياً حافياً بحليته التي كان فيها أولاً.فلما قرأ ذلك الكتاب عبد الملك ضحك ضحكاً شديداً، وأرسل إلى الحجاج يأمره بذلك. فلما قرأ الحجاج رسالة أمير المؤمنين أجاب ولم يخالف وامتثل الأمر.وأرسل الحجاج إلى هند يأمرها بالتجهز فتجهزت وسار الحجاج في موكبه حتى وصل إلى المعرة بلد هند. فركبت في محمل وركب حولها جواريها وخدمها فترجل الحجاج، وهو حاف، وأخذ بزمام البعير يقوده ويسير بها، فأخذت تهزأ منه وتضحك مع الهيفاء دابتها، ثم إنها قالت لدايتها: يا دايتي اكشفي لي ستارة المحمل لنشم رائحة النسيم! فكشفته فوقع وجهها في وجهه فضحكت عليه، فأنشد يقول:
فإن تضحكي يا هند يا رب ليلة ... تركتك فيها كالقباء المفرج
فأجابته تقول:
وما نبالي إذا أرواحنا سلمت ... بما فقدناه من مال ومن نشب
فالمال مكتسب والعز مرتجع ... إذا النفوس وقاها الله من عطب
ولم تزل تلعب وتضحك إلى أن قربت من بلد الخليفة فلما قربت من البلد رمت من يدها ديناراً على الأرض وقالت: يا جمال! إنه سقط منا درهم فادفعه إلينا. فنظر الحجاج إلى الأرض فلم ير إلا ديناراً فقال: إنما هو دينار. فقالت: بل درهم. قال: بل دينار. فقالت: الحمد لله سقط منا درهم فعوضنا الله ديناراً. فخجل الحجاج وسكت ولم يرد جواباً ثم دخل بها على عبد الملك بن مروان فتزوج بها وكان من أمرها ما كان.
معاوية وميسون الكلبية
ولما اتصلت ميسون بنت بحدل بمعاوية رضي الله عنه ونقلها من البدو إلى الشام كانت تكثر الحنين على ناسها والتذكر لمسقط رأسها، فاستمع عليها ذات يوم فسمعها تنشد وتقول:
لبيت تخفق الأرواح فيـه ... أحب إلي من قصر منيـف
وأكل كسيرة في كسر بيتي ... أحب إلي من أكل الرغيف
وأصوات الرياح بكل فـجٍ ... أحب إلي من نقر الـدفوف
ولبس عباءة وتقر عيـني ... أحب إلي من لبس الشفوف
وكلب ينبح الطراق حولـي ... أحب إلي من قـط ألـوف
وبكر يتبع الأظعان صعـبٌ ... أحب إلي من بغـِل زفوف
وخرق من بني عمي نحيفٌ ... أحب إلي من علـج عنيف
قال الراوي: فلما سمع معاوية الأبيات قال: ما رضيت ابنة بحدل حتى جعلتني علجاً عنيفاً.
معاوية والحسن
وروي أن معاوية رضي الله عنه خرج عاماً حاجاً، فمر بالمدينة ففرق على أهلها أموالاً جزيلة ولم يحضر الحسن بن علي رضي الله عنهما، فلما حضر قال له معاوية: مرحباً مرحباً برجل تركنا حتى نفد ما عندنا وتعرض لنا ليبخلنا؟ فقال الحسن رضي الله عنه: كيف ينفد ما عندك، وخراج الدنيا يجيء إليك؟ فقال له معاوية: قد أمرت لك بمثل ما أمرت به لأهل المدينة، وأنا ابن هند.فقال الحسن: قد رددته عليك، وأنا ابن فاطمة الزهراء رضي الله عنها.
المأمون والفتاة العربية
عن أبي عبد الله النميري أنه قال: كنت يوماً مع المأمون، وكان بالكوفة، فركبت للصيد ومعه سرية من العسكر، فبينما هو سائر إذ لاحت له طريدة فأطلق عنان فرسه وكان على سابق من الخيل، فأشرف على نهر من ماء بحر الفرات، فإذا هو بجارية عربية خماسية القد، قائمة النهد، كأنها القمر ليلة تمامه، وبيدها قربة قد ملأتها من النهر، ورفعتها على كتفها، وصعدت من حافة النهر، فانحل وكاؤها، فصاحت برفيع صوتها: يا أبت! أدرك فاها، قد غلبني فوها، لا طاقة لي بفيها.قال: فعجب المأمون من فصاحتها ورمت القربة من يدها، فقال لها المأمون: يا جارية من أي العرب أنت؟ فقالت: أنا من بني كلاب.قال: وما حملك أن تكوني من الكلاب؟ قالت: والله لست من الكلاب وإنما أنا من قوم كرام غير لئام، يقرون الضيف، ويضربون بالسيف، ثم قالت: يا فتى من أي الناس أنت؟ قال: أوعندك علم بالأنساب؟ قالت: نعم.قال: أنا من مضر الحمراء.قالت: من أي مضر؟ قال: من أكرمها نسباً وأعظمها حسباً وخيرها أماً وأباً، مما تهابه مضر وتخشاه.قالت: أظنك من كنانة؟ قال: أنا من كنانة.قالت: من أي كنانة؟ قال: من أكرمها مولداً وأشرفها محتداً وأطولها في المكرمات يداً، ممن تهابه كنانة وتخشاه.قالت: والله أنت من بني هاشم؟ قال: أنا من بني هاشم.قالت: من أي هاشم؟ قال: من أعلاها منزلةً وأشرفها قبيلةً ممن تهابه هاشم وتخشاه.قال: فعند ذلك قبلت الأرض وقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين وخليفة رسول رب العالمين.قال: فتعجب المأمون منها وطرب طرباً شديداً، ثم قال: لأتزوجن بها لأنها من أكبر الغنائم، ووقف حتى التحق به العسكر، فنزل وأرسل خلف أبيها وخطبها منه، فزوجه بها، وهي والدة العباس والله أعلم.
الأمير الأموي وملك النوبة
وذكر المنصور يوماً في مجلسه زوال ملك بني أمية وما جرى عليهم، وأنهم عاشوا سعداء وماتوا فقراء، فقال له إسماعيل بن علي الهاشمي: إن عبد الله بن مروان بن محمد في حبسك، وله قصة مع ملك النوبة. فأحضره واسأله عنها. فأحضره، فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.فقال المنصور: رد السلام أمن ولم تسمح نفسي بذلك، ولكن اقعد! فقعد فقال: ما قصتك مع ملك النوبة فقال: يا أمير المؤمنين، كنت ولي عهد أبي فلما طلبتنا دعوت عشرة من غلماني ودفعت لكل واحد ألف دينار وأوسقت خمس بغال وشددت في وسطي جوهراً له قيمة
عظيمة وخرجت هارباً إلى بلاد النوبة، فلما قربنا بعثت غلاماً لي، فقلت له: امض إلى هذا الملك وأقرئه السلام وخذ لنا منه الأمان وابتغ لنا ميرة. فمضى وأبطأ حتى أسأت به الظن، ثم أقبل ومعه رجل فدخل وسلم وقال: الملك يقرئك السلام ويقول لك: من أنت وما جاء بك إلى بلادي؟ أمحارب، أم راغب في ديني، أم مستجير بي؟ فقلت له: رد على الملك، ما أنا بمحارب ولا راغب في دينك ولا ممن يبتغي بدينه بدلاً بل مستجير به.فذهب الرسول ورجع إلي وقال: الملك يقول لك إني أجيء إليك غداً فلا تحدث نفسك حدثاً ولا شيئاً من الميرة.فقلت لأصحابي: افرشوا الفراش، ففرش لي وجلست من الغد أرقبه، وإذا هو قد أقبل وعليه بردان قد ائتزر بأحدهما وارتدى بالآخر، حافي الرجلين، ومعه عشرة معهم الحراب: ثلاثة يقدمونه وسبعة خلفه فاستصغرت أمره وسولت لي نفسي قتله، فلما قرب إذا سواد عظيم، قلت: ما هذا؟ قالوا: الخيل. فوافى بها عشرة آلاف عنان، ووافت الخيل عند دخوله فأحدقوا بنا، فلما دخل جلس على الأرض، قال: فقلت لترجمانه: لِمَ لمْ يقعد على الموضع الذي وطئ له؟ فسأله، فقال: قل له إنه ملك وكل ملك حقه أن يكون متواضعاً لله وعظمته إذ رفعه الله على عباده.ثم نكت بإصبعه الأرض طويلاً ورفع رأسه وقال: قل له كيف سلبتم هذا الملك، فأخذ منكم وأنتم أقرب الناس إلى نبيكم؟ فقلت: جاء من هو أقرب منا قرابة إليه، فسلبنا وغلبنا وطردنا فخرجت إليك مستجيراً بالله، ثم بك.قال: فلم كنتم تشربون الخمر وهو محرم عليكم؟ قلت: فعل ذلك عبيد وأعاجم دخلوا في ديننا وفي ملكنا من غير رأينا.قال: فلم تركبون على الديباج وعلى خيولكم سروج الذهب والفضة وهي محرمة عليكم؟ قلت: فعل ذلك عبيد وأعاجم دخلوا في ديننا وفي ملكنا بغير رأينا.قال: فلم كنتم إذا خرجتم إلى الصيد مررتم على القرى وكلفتم أهلها ما لا طاقة لهم به بالضرب والإهانة ولا يقنعكم ذلك حتى تحطموا زرعهم في طلب دراج قيمته نصف درهم، والتكليف والعناء محرم عليكم؟ قلت: فعل ذلك عبيد وغلمان وأتباع.قال: لا! ولكنكم استحللتم ما حرم الله عليكم وأتيتم ما نهاكم الله عنه فسلبكم العز وألبسكم الذل ونصر أعداءكم عليكم، ولله فيكم نقمة لم تبلغ غايتها بعد، وإني أخاف أن تنزل بك النقمة إذ كنت من الظلمة فتشملني معك، فإن النقمة إذا نزلت شملت، فاخرج بعد ثلاث، فإن وجدتك بعدها أخذت ما معك وقتلتك ومن معك.ثم وثب قائماً وخرج وقمت ثلاثاً ورجعت إلى مصر فأخذني عاملك وبعث بي إليك، وها أنا ذا والموت أحب إلي من الحياة.فرق له المنصور وهم بإطلاقه، فقال له إسماعيل بن علي: في عنقي بيعة هذا.قال: فما ترى؟ قال: ينزل في دار من دورنا ويجري عليه ما يجري على مثله.ففعل به ذلك.
معن بن زائدة الشيباني كان من الكرماء، يقال فيه: حدث عن البحر ولا حرج، وكان عاملاً بالبصرة، فحضر على بابه شاعر وأقام مدة يريد الدخول فلم يتهيأ له، فقال يوماً لبعض الخدام: إذا دخل الأمير البستان فعرفني، فلما دخل أعلمه بذلك، فكتب الشاعر بيتاً ونقشه على خشبة وألقاها في الماء الذي يدخل البستان، وكان معن جالساً على القناة، فلما رأى الخشبة أخذها وقرأها فإذا فيها هذا البيت:
أيا جود معن ناج معناً بحاجتي ... فليس إلى معن سواك رسول
فقال: من الرجل صاحب هذه؟ فأتي به إليه. فقال: كيف قلت؟ فأنشده البيت فأمر له بعشر بدر، فأخذها وانصرف، فوضع معن الخشبة تحت بساط. فلما كان في اليوم الثاني أخرجها من تحت بساط ينظر فيها، ودعا بالرجل فأمر له بمائة ألف درهم، فلما كان في اليوم الثالث فعل مثل ذلك، فتفكر الرجل وخاف أن يأخذ منه ما أعطاه فخرج من البلد بما كان معه. فلما كان في اليوم الرابع طلب الرجل فلم يوجد، فقال معن: والله هممت أن أعطيه حتى لا يبقى في بيت مالي درهم ولا دينار إلا أعطيته له، وفيه يقول القائل:
يقولون معـن لا زكاة لمالـه ... وكيف يزكي المال من هو باذله
إذا حال جولٌ لم يكـن في دياره ... من المـال إلا ذكره وجمائلـه
تـراه، إذا مـا جئته، متهـللاً ... كأنـك تعطيـه الذي أنت آمله
هو البحر من أي النواحي أتيته ... فلـجته المعروف والبر ساحله
تعـود بسط الـكف حتى لونه ... أراد انقباضاً لم تطـعه أنامله
فلو لم يكن في كفه غير نفسه ... لـجاد بـها فليـتق الله سائلـه
ومن قول معن:
دعيني أنهب الأموال حتى ... أعف الأكرمين عن اللئام
ويروى أن معن بن زائدة خرج في جماعة يتصيدون، فاعترضهم قطيع ظباء، فتفرقوا في طلبه، وانفرد معن خلف ظبي، فلما ظفر به نزل فذبحه، فرأى شخصاً مقبلاً من البرية على حمار، فركب فرسه واستقبله، فسلم عليه وقال له: من أين أتيت؟قال: أتيت من أرض قضاعة وإن لي بها أرضاً، لها عدة سنين، مجدبة، وقد أخصبت في هذه السنة فزرعتها قثاء فطرحت في غير وقتها، فجمعت منها ما استحسنته وقصدت الأمير معن بن زائدة لكرمه المشهور ومعروفه المأثور، وإحاسنه المذكور.فقال له: كم أملت منه؟ قال: ألف دينار.فقال: فإن قال لك: كثير.قال: خمسمائة دينار.قال: إن قال لك: كثير.قال: ثلاثمائة دينار.قال: إن قال لك: كثير.قال: مائتي دينار.قال: إن قال لك: كثير.قال: مائة دينار.قال: إن قال لك: كثير.قال: خمسين ديناراً.قال: إن قال لك: كثير.قال: أفلا أقل من ثلاثين.قال: إن قال لك: كثير.قال: أدخل قوائم حماري في حر أمه، وأرجع إلى أهلي خائباً.فضحك معن منه وساق جواده حتى لحق بعسكره ونزل منزله، وقال لحاجبه: إذا أتاك شيخ على حمار بقثاء فادخل به علي.فأتى بعد ساعة فلما دخل على الأمير معن لم يعرفه لهيبته وجلالته، وكثرة خدمه وحشمه وهو متصدر في دست مملكته، والحفدة قيامٌ عن يمينه وشماله وبين يديه. فلما سلم عليه قال له الأمير معن: ما الذي أتى بك يا أخا العرب؟ قال: أملت الأمير وأتيته بقثاء في غير أوانها.قال: فكم أملت فينا؟ قال: ألف دينار.قال كثير.قال: خمسمائة دينار.قال: كثير.قال: ثلاثمائة دينار.قال: كثير.قال: مائتي دينار.قال: كثير.قال: مائة دينار.قال: كثير.قال: والله لقد كان ذلك الرجل الذي قابلني علي مشؤوماً ثم قال: خمسين ديناراً.قال: كثير.قال: أفلا أقل من ثلاثين؟ قال: فضحك معن وسكت فعلم الأعرابي أنه صاحبه فقال: يا سيدي إن لم تعطني الثلاثين فالحمار مربوط بالباب، وها أنا مع معن جالس.فضحك معن حتى استلقى على قفاه ثم استدعى بوكيله وقال: أعطه ألف دينار وخمسمائة دينار وثلاثمائة دينار ومائتي دينار ومائة دينار وخمسين ديناراً وثلاثين ديناراً ودع الحمار مربوطاً مكانه.فبهت الأعرابي وتسلم ألفي دينار ومائةً وثمانين ديناراً، فرحمة الله عليهم أجمعين.وكان مع كرمه صاحب
شهامة، فمن ذلك، أنه سعى رجل في إفساد دولة المهدي، وكان من الكوفة فعلم به المهدي فأهدر دمه، وجعل لمن دل عليه مائة ألف درهم، فأقام الرجل حيناً مختفياً ثم ظهر في بغداد فبينما هو في بعض الشوارع إذ رآه رجل من الكوفة فعرفه فاخذ بمجامع طوقه ونادى: هذا طلبة أمير المؤمنين فبينما الرجل على تلك الحالة وقد اجتمع حوله خلق كثير إذ سمع وقع حوافر الخيل من ورائه فالتفت فإذا هو بمعن بن زائدة، فقال: يا أبا الوليد؟ أجرني أجارك الله. فوقف فقال للرجل الذي تعلق به: ما تريد منه؟ قال: هذا طلبة أمير المؤمنين أهدر دمه، وجعل لمن دل عليه مائة ألف درهم.فقال له معن: دعه! ثم قال: يا غلام أردفه، فأردفه وكر راجعاً إلى داره، فصاح الرجل: معن حال بيني وبين من طلبه أمير المؤمنين ولم يزل صارخاً إلى أن أتى قصر المهدي، فأمر المهدي بإحضار معن، فأتته الرسلُ، فدعا معن أولاده ومماليكه وقال: لا تسلموا الرجل، وواحد منكم يعيش.ثم سار إلى المهدي فدخل وسلم فلم يرد عليه، ثم قال: يا معن! أتجير علينا عدونا؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال المهدي: ونعم أيضاً.واشتد غضبه. فقال معن: يا أمير المؤمنين، بالأمس بعثتني إلى اليمن مقدم الجيش، فقتلت في طاعتك في يوم واحدٍ عشرة آلاف رجل، ولي مثل هذا قال معن: فإن رأى أمير المؤمنين أن يصله بصلةٍ يعلم منها موقع الرضا، فإن قلب الرجل قد انخلع من صدره خوفاً.قال: قد أمرنا له بخمسين ألف درهم.قال: يا أمير المؤمنين، إن صلات الخلفاء على قدر جنايات الرعية.قال: قد أمرنا له بمائة ألف أيام كثيرة فما رأيتموني أهلاً أن أجير رجلاً واحداً استجار بي، ودخل منزلي.فسكن غضب المهدي، وقال: قد أجرنا من أجرت يا أبا الوليد.درهم.قال: عجلها يا أمير المؤمنين، فإن خير البر عاجله.فأحضر معن الرجل وقال له: خذ صلة أمير المؤمنين، وقبل يده، وإياك ومخالفة خلفاء الله في أرضه فما كل مرة تسلم الجرة .
انتهـــــــى
التعديل الأخير تم بواسطة محمد بن دوهان ; 03-30-2011 الساعة 03:33 PM
|